الرئيسيةرأي وتحليل

رُسُلُ التطبيع – أيهم محمود

المستقبل مرتبط بقدرتنا على تجديد خطابنا السياسي والإقتصادي والإنساني

سناك سوري-أيهم محمود

قبل سنوات ظهر اسم غير معروف سابقاً لينشر أبحاثه التاريخية واللغوية، انتقل إلى صفحات موقع الفيسبوك واليوتيوب بهدوء، ظهر في اقتراحات المَوْقِعين لمشاهدة المحتوى، ربما ساعدته قوى هادئة في عمله أو تم الانتظار حتى يقوم الزمن بعمله الطبيعي في مثل هذه الحالات، بعد سنوات شاهدت له صورة مع سيدة إسرائيلية وهو يتحدث بشكل مباشر عن السلم والسلام مع دولة الاحتلال، لقد تم التطبيع مع بعض دول منطقته بشكل علني وانتهى الأمر.

تختلف مستويات الاستعداد الشعبي العام لقبول عملية التطبيع مع دولة الاحتلال بين المناطق العربية المختلفة، بعض المناطق مازالت متشددة في التعامل مع هذه الظاهرة ومع الدعاة لها، قد تطال المصرّحين عنها القوانين المحلية مما يعرضهم إلى محاكمات قاسية، لذلك حين نجد شخصية معروفة اجتماعياً تتحدث عن التطبيع دون أن تخشى القوانين أو تخشى المزاج الشعبي العام يجب أن نذهب بتفكيرنا إلى وجود دعم رسمي قوي لها من قوى سياسية تستطيع أن تحميها من تأثير القوانين ومن ردّات فعلٍ شعبية محتملة، هي مجرد بالون اختبار تم إطلاقه في المجتمع ليخدم هدفين متكاملين:

  • الأول اختبار حساسية المجتمع وأنواع استجابته لهذه الرسالة الناعمة.
  • الثاني كسر حاجز التحريم “التابو” الذي وضعته الثقافات السياسية السابقة التي تُحرّم الخوض في نقاش مسألة التطبيع.

إذا هي عملية ممنهجة ودقيقة خاصةً في الحالات التي لا يتم فيها الاستعانة بشخصية مشهورة معروفة مسبقاً، بل يتم تصنيع شخصية ثقافية من العدم وتزويدها بأبحاث ودراسات رصينة عالية المستوى، ثم إطلاقها في المجتمعات الرقمية الأقل كلفة مادياّ وسياسياً أو التجرؤ على إطلاقها مباشرةً في الإعلام المرئي، مع تحمل الكلفة العالية لهذا الإطلاق في كافة المجالات، هذا النمط من التصنيع الدقيق لشخصيات جديدة يفترض وجود مؤسسات عالية الكفاءة تعمل على إطلاق هذه الواجهات البينية الناطقة باسمها.

مقالات ذات صلة

لا تقتصر عمليات السعي إلى التطبيع على استخدام هذا الأسلوب فقط، فالكتلة الشعبية الأكبر تمتلك حالة متصلبة واضحة الشكل والمعالم لذلك يجب رفع درجة حرارتها كما يفعل الحداد مع الفولاذ قبل الانتقال إلى مرحلة الطرق والضغط لتشكيله وفق صيغةٍ جديدة ثم تبريده لاحقاً ليحافظ على شكله الجديد المكتسب.

اقرأ أيضاً: سجن ستانفورد: اختبار عالمي جديد – أيهم محمود

يخدم هذا المسار انتشار الحروب وظهور أعداء خطرين يدفعان الكتلة المجتمعية الصلبة إلى قبول المفاضلة بين عدوٍ وآخر، تستغل عملية التطبيع النشطة حالياً اندفاع بعض الكتل الإقليمية غير المدروس للعودة إلى أزمنة الهيمنة القديمة وإعادة تشكيل امبراطورياتها التاريخية مع ما يرافق هذه العملية من مخاوف مشروعة للشعوب المغلوبة سابقاّ من تزايد نشاط هذه الكتل الإقليمية، يتم استغلال هذا الاندفاع لتوليد الحرارة اللازمة والمخاوف الكافية لقبول عملية التطبيع دون إثارة رد فعل تحسسي واسع النطاق يمكنه إجهاض هذه الجهود.

يستغل البحّار المتمرس الرياح القوية المضادة لوجه سفره بإمالة أشرعته، تطول المسافة اللازمة للوصول إلى الهدف لكن الرياح المضادة في هذه الحالة تصبح خادماّ لأهدافه بدل أن تكون عائقاً أمامها، هذا ما يحدث حالياً في وقائع المنطقة بعيداً عن تداول نظريات المؤامرة ونظريات الخيانة ومشاركة القوى الإقليمية للكيان المحتل في أهدافه بعيدة المدى.

عدم دراسة الواقع بشكل عقلاني والعيش في وهم أمجاد الماضي يؤديان إلى نتائج أسوأ بكثير من الحال الذي وصلت إليه منطقتنا، طريق المستقبل بعيدةٌ كل البعد عن طريق إعادة أمجاد التاريخ، المستقبل كامنٌ في قدرتنا على إبداع لحظات جديدة لا تشبه سابقاتها من ناحية التطور العلمي والإنساني، المستقبل مرتبط بقدرتنا على تجديد خطابنا السياسي والاقتصادي والإنساني وإجراء إصلاحات عميقة ومؤلمة لثقافتنا التي تجمدت وتصلبت منذ قرون عدة، عندما ننجح في العبور من عالم الماضي إلى عالم الغد لن يطرق أحدً على فولاذنا المُحمى لأن درجة إعادة تشكيله وفق صيغةٍ مناسبةٍ لهم ستكون أكبر بكثير مما يظنون أو يتخيلون.

اقرأ أيضاً: الخلل المنطقي أعمق وأخطر من الخلل السياسي – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى