إقرأ أيضاالرئيسيةيوميات مواطن

من لا يرضى يعيش أفضل – شاهر جوهر

ليش الحكومة ولا مرة جربت تسألني: من أين ليس لك كل هذا؟!

سناك سوري-شاهر جوهر

من النادر أن تجد بدويّاً رقيق القلب، لهذا من غير المألوف أن يمضي نهارك في هذه البلدة دون أن تنخرط في عنف محلي.

في الشارع اليوم عند سوكة “أبو عرب المكنسيان” على سبيل المثال صبيّان يتعاركان بلسانهما، يشتم أحدهم والد الآخر فيشتم أبيه، يشتم أمه فتُسب أمه، ثم يتدافعان بالضرب، وهكذا، مثل متوالية رياضية لـ “لابلاس”، أما أنا فلا أفعل شيء حيالهما، فهذا العنف الكيميائي لن يتوقف يوماً، ولا أرغب في فعل شيء لإيقافه، لست من النوع الذي إن دخل عراك يخرج منه منتصراً، حتى لو كان بنيّة الفصل بين الخصمين.

ففي ذات حصار تعارك شابان في حيّنا على ربطة الخبز الأخيرة في الدكان، شتم الأول أمّ الثاني فشتم الثاني دين الآخر، عندها لم يكن من الجيد بالنسبة لي الوقوف على الحياد لأن هناك أمور من الواجب علينا أن نقول لها (يكفي)، فتهمة كـ “سبّ الذات الالهية” من الممكن أن تودي بحياة أحدهما على الأقل مقطوع الرأس من قبل الفصيل الإسلامي الذي كان يحكم البلدة.

أذكر جيداً أني بفعل ذلك نمت أربعة أيام بلياليها مضعضع الأطراف وعلى وجهي آثار حذائيهما البلاستيكيان وذاك انطلاقاً من المثل المحلي القائل (للحجّاز ثلثي القَتلة)، لهذا قلت في نفسي اليوم (يفتح الله)، ففي سجلي عشرات المعارك الخاسرة ولا خسارات بعد اليوم.

فهذا المجتمع يتقاتل حتى في نومه، فما بالي أنا وكوابيسه التي لا تنتهي، أكاد أجزم أنه إن لم يجد أحدنا من يقاتله، سيقاتل نفسه.

ثلث من ترك هذه البلدة الصغيرة فكروا بما أفكر به اليوم قبل أن يهاجروا، في حين الثلث المتبقي له وجهة نظر مختلفة، فأنا أعرف أمثلة كثيرة عن أناس كثر هنا مارسوا الحقيقة والرضا كإحدى فصول اللعنات، لذا يخطر الآن ببالي بعضها.

رئيس بلديتنا السابق مثلاً شخص جيد لا أذكر أن له عيوب، ترك البلدة لسبب فلسفي وجيه ولديه قضية، لم يعجبه يوماً شعار (من أين لك هذا) والذي تطرحه حكومات الشرق الأوسط باستمرار، فحين قررت حكوماتنا فعل ذلك حمل حقيبته وهاجر.

لربما معه حق، الحكومات الفاشلة هي من تفعل ذلك، فما أن تولد حكومة جديدة لدينا حتى يمارس رئيسها شفافيته على صغار الموظفين.

هذه الحكومات عزيزي القارئ عاجزة عن إثراء الشعب والطبقات الممحوقة، ومشلولون حتى النخاع لتحسين المستوى المعيشي للمواطن، لذا يصرون على إفقار الموظف البسيط حين يشيروا إليه بأصابعهم السمينة ويسألوه بقسوة: «من أين لك هذا». تمنيت كمواطن معدم أن تسألني الحكومة يوماً: «من أين ليس لك كل هذا». لكن لا أجوبة على هذه الاسئلة المفتوحة.

ليس ..

أتعرفون سعاد؟

إنها فتاة في حيّنا، صرفت سنين طوال من حياتها في خياطة جيوب أبناء البلدة وترقيع سراويلهم، حتى صار يطلق عليها اسم (أم إبرة)، لم يتزوجها أحد، (لا أحد سيحب فتاة تعمل في خياطة الملابس) هي تقول ذلك، خطبها عجوز خرف، تمنت في ليلة زواجها أن يتحول هذا الضفدع الكهل الذي سيتزوجها يوماً ما لأمير (كما في الأساطير)، لكن مرت الأيام وبقي الضفدع ضفدعاً ولم يتغير. وحين أدركت ذلك تركته وهربت لألمانيا، هناك تزوجت شاب يكبرها ببضع سنوات. تذكرتُها اليوم حين رأيت صورة ابنها على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي.

الجميع هنا يهرب، وهو ليس بالأمر السري أو المستغرب، فمن الهاربين أيضاً من هذا الحي الصغير ممن يملكون عقد قديمة ابن قريتي القديم (ن)، قبل رحيله كان يروّج في الحي عن أسباب رغبته في الرحيل، و رغم أن غصّة علقت في حلقومه، إلا أنه كان يتكلم مثل “شوبنهور”.

فقد حدثني عن زوجته التي لم تكن تنق، عن ابنه الذي لم يهرب أو ينخرط مع داعش كما فعل أغلب الصبية هنا، عن أبيه الذي لم يمت بشظية، وأمه التي لم تنتظر أحد أبنائها المفقودين.

كل ما قاله:

– أترى هذا الندب هنا، هنا نعم في الجبين، حين كنت طفلاً خرجت ألعب فنطحتني البقرة ونمت في الجابية ليلة كاملة مغماً عليّ، وفي اليوم التالي حين استيقظت عدت مترنحاً للمنزل، لم يسألني أحد أين نمت، أو لِما جبينك مهشمة. كيف لك أن تتخيل أن مستقبلي سيكون أفضل هنا، كيف لك أن تتخيل شكل مستقبل أبنائي هنا، أنا راغب في الرحيل.

وبالفعل رحل ولم يعد، من هنا أستطيع القول أن من يرضى يعيش، لكن من لا يرضى يعيش أفضل.

اقرأ أيضاً: سبب مقنع للجوء … شاهر جوهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى