الرئيسيةرأي وتحليل

ثقافة تقبيل اليد – أيهم محمود

بين أن تقول: “السيد فلان”، وبين أن تقول: “سيدي”، هل تعلم أن هذه الياء الصغيرة تصنع بحوراً من المعاناة؟

سناك سوري-أيهم محمود

لا تبدأ ثقافة الخضوع من الجذر السياسي بل تنطلق من جذور ثقافية أعمق بكثير، الحالة السياسية في نموذج الطغيان -على اختلاف أشكاله وتنوعاته العالمية- مجرد انعكاس مباشر لنوع العلاقات السائدة في بنية مجتمع ما.

تنتشر في مجتمعات كثيرة ثقافة تقبيل اليد كإشارةٍ إلى الاحترام الفائق، أو الخضوع الطوعي إلى صاحب اليد التي تملك السطوة العاطفية أو الاجتماعية بشقيها الديني والدنيوي، هناك فرقٌ واضح بين رأسين متقابلين في عناقٍ متكافئ وبين رأس ينظر إلى الأسفل ليرى الرأس الآخر، هناك فرقٌ مهم لا يمكن تجميله بين مصافحة يدٍ ليد وبين مصافحة رأسٍ ليد.

يتعلم الأطفال الخضوع منذ نعومة أظفارهم، يتعلمون تقديس البشر، تقديس الأم والأب، أو تقديس شيخ القرية، ثم شيوخ المنطقة، وصولاً إلى تقديس شيوخ السياسة، ثم لاحقاً تقديس شيخ دولةٍ أخرى أو جماعةٍ أخرى تحتل أرضه باسم مقدسٍ اجتماعي أو ثقافي ما، هي عملية استبدال خضوعٍ بآخر، ومن يتعلم الخضوع يفقد في مراحل مبكرة من حياته هويته الذاتية التي تميزه وحده بعد أن تم تدميرها منذ الصغر.

تقبيل اليد ليس أسلوب عاطفة أو أسلوب احترام بل تدريب دقيق ومستمر على سحق الهوية الفردية، تدريب على الخضوع وقبول الحوار غير المتكافئ بين طرفين، تدريب على تفريق البشر إلى طبقات سواء كان هذا التفريق عاطفياً زمنياً في حالة الأم والأب وعلاقتهما مع الابن، أو كان التفريق اجتماعياً ثقافياً مثل حالة الشيخ أو حالة السياسي.

من يقفز فوراً باتجاه معالجة الطغيان السياسي دون المرور بهذه التفاصيل الاجتماعية التي يعتبرها مجرد أمور صغيرة يرغب فقط في تبديل اليد التي يتم تقبيلها، والتاريخ شاهد على ذلك في جميع الأحزاب والاتجاهات الفكرية من اليسار حتى اليمين.

اقرأ أيضاً: أزمات هندسية – أيهم محمود

يتجنب العاملون في المجال السياسي الخوض في هذه المشكلات الاجتماعية العامة لكي لا يفقدوا شعبيتهم، يفضلون استمرار هذا الحال أو يواجهونه بالتقية وعدم التعرض له بشكل مباشر، النتيجة في الحالتين هي إعادة إنتاج منظومة الطغيان طالما خلاياها تتجدد وتتكاثر باستمرار وتشكل مداً ثقافياً متنامياً باضطراد، يحاول السياسيون حل المشاكل الاجتماعية حين تتفاقم وتنفجر في وجوههم بالعنف الذي يزيد الطين بلة ولا يصل بالمجتمع إلى أي مكان، ما نهرب من مواجهته على شكل دفعات صغيرة يصدمنا فيما بعد ككتلة متماسكة صلبة وقد يهشم بنيتنا أو يُعرضها إلى أضرار كبيرة عصية على الإصلاح.

فرقٌ لغويٌ آخر..

بين أن تقول: “السيد فلان”، وبين أن تقول: “سيدي”، هذه الياء الصغيرة تصنع بحوراً من المعاناة في مجتمعاتٍ تُسيء دائما التفسير لتأخذه باتجاه الحد الأقصى، باتجاه السيد والعبيد، الياء هنا أكبر من اللغة ومن الإعراب، الياء جوع استعادة بعض الهوية ولو عن طريق سحق هويات الآخرين، يحتاج العالم المزيد من التغيرات الثقافية الجادة والجريئة قبل أن يتجاوز ذاكرة العبودية وإرث الاستعباد الذي رحل بشكله الظاهر لكنه بقي مستتراً متخفياً في ثقافتنا العالمية الهشة والطفلة نسبياً، إن قارنا عمرها القصير بالعمر الطويل لتاريخ الاستعباد البشري.

اقرأ أيضاً: ثقافةٌ من ورق – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى