أخر الأخبارالرئيسيةسوريا الجميلة

‏المرأة في التاريخ السوري نافذة حضارة – حسان يونس

إن إعادة الاعتبار للمرأة السورية لا يعني فقط السماح بالدخول في العمل بل التخلص من الفكرة التلمودية

سناك سوري – حسان يونس

في ملحمة جلجامش ظهرت المرأة بصورة رمزية بالغة الروعة، فكانت مدخلاً إلى الحضارة من خلال انتقال “أنكيدو” الإنسان المتوحش ابن الغابة إلى المدنية بعد اتصاله بها وحيازته بالتالي على فن الحياة والحكمة وسعة الفهم والحس.
هذا الدور الذي لعبته المرأة كمدخل للحضارة ظهر خارج ملحمة جلجامش على امتداد تاريخ منطقتنا، فإذا كان “أنكيدو” قد حاز المدنية من خلال الأنثى، فإن شعوباً ومُدناً عاشت هذه التجربة وهو ما نجده في أسطورة الأميرة “أوروبا” ابنة “أجينور” ملك صور، وهي أم الملك والمشرع “مينوس” الذي تُنسب إليه الحضارة المينوية، والتي تعتبر أقدم الحضارات في اليونان وأوروبا، هذا الدور لعبته كذلك “أليسار” بنت “متان” ملك الصور حين انتقلت إلى شمال إفريقيا وأسست قرطاج التي أصبحت درة التاج الفينيقي ومنافسة روما في السيادة على المتوسط .
ان مجمل هذه الأساطير القديمة التي لا تزال حية في لاوعينا كمجتمعات تجعل المرأة مفتاحاً للتطور والخروج من البرية إلى المدنية المؤطرة بنظام، وبعيداً عن الأساطير وما تثيره من لا مبالاة لدى البعض هناك الكثير من النماذج لسيدات سوريات لعبن دور المفتاح الحضاري لممالك وامبراطوريات والمفتاح الحضاري هنا لا يعني القيادة أو تبوؤ سُدة الحكم، بل يعني الانغماس في الفكر والتنظيم والفلسفة وإدخال روح الحضارة إلى المجتمعات من خلال رعاية مجالس ورجالات العلم والفلسفة والقانون وتسخير هذه الطاقات الفكرية في تطوير مناحي الحياة، وربما تكون “جوليا دومنا” (170-217 م) الإمبراطورة السورية من مدينة حمص مثال بارع على ذلك فهي بالإضافة الى كونها حكمت أو شاركت في الحكم خلال عهدي زوجها وابنها “كركلا” إلا أن ما يعنينا في شخصها أنها شكَّلت مجلساً ضم كبار العلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء والأطباء والقانونيين المعاصرين لها، وكان هذا (الصالون) الأدبي والعلمي يُعقد بشكل منتظم تحت إشرافها، ويناقش الكثير من القضايا الفكرية والعلمية، ومن بين أعضاء هذا المجلس العلمي كان القانوني المشهور “أولبيان” (170 – 223م)، وهو من مواليد مدينة صور والقانوني الأشهر ابن مدينتها بانيان الذي ترك تراثاً قانونياً اقتبست منه مدونة “جستنيان” القانونية، التي صدّرت في القرن السادس الميلادي ما لا يقل عن ستمائة مادة قانونية. وكان بين العلماء والفلاسفة كذلك الفيلسوف والطبيب اليوناني الشهير “جالينوس” (129 – 199م), الذي نبغ في الكثير من العلوم مثل الفلسفة والطب وضمَّ هذا المجلس الشاعر السوري “أوبيان” وهو من مدينة “أفامية” السورية.

اقرأ أيضاً: أرواد وابنتها عمريت… حاضر يذكرنا بالتاريخ

والأهم من كل ذلك أن الإمبراطورة “جوليا دومنا”، بالإضافة إلى المشرِّعين السوريين المحيطين بها، كانوا جميعاً وراء المرسوم الشهير الذي أصدره ابنها الإمبراطور “كاراكلا” عام 212 م والذي ينص على منح حقوق المواطنة الرومانية لجميع سكان الإمبراطورية الأحرار، والتي كان لا يتمتع بها إلا سكان إيطاليا. هذا المرسوم يُعدُّ نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الإمبراطورية الرومانية وفي التاريخ السياسي عامة .
على خطا “جوليا دومنا” سارت الإمبراطورة البيزنطية السورية “تيودورا” وهي من مواليد “منبج” 500 م، فكان لها دور في اعتماد أول مجموعة للقوانين الرومانية حملت اسم زوجها الإمبراطور “جوستنيانوس”.
وإلى جانب “جوليا دومنا وتيودورا” نجد أن “زنوبيا” كذلك تعرّضت للظلم حين جرى تقديمها للرأي العام باعتبارها وصية على العرش حكمت تدمر وتحدت روما، فيما كان جانبها الأكثر أهمية أنها اهتمت بالحكمة والمعرفة والعلم، واستعانت بالحكماء والفلاسفة لتنهض بمجتمعها على اختلاف طبقاته، كما أجادت ثلاث لغات، وكانت قارئة لتاريخ الشرق الأدنى وتاريخ الرومان، وكانت مهتمة بالفلسفة والأدب فكان بلاطها يجمع كل من الفلاسفة “كاسيوس ديونيسوس لونجينوس ولوبوكوس البيروتي وفرفوريوس” الذي عينته مستشاراً لها، كما كان من المقربين إليها، المؤرخان “كليركراتس الصوري وبوزانياس الدمشقي”، ومن الجدير ذكره أن القيصر الروماني “أورليانوس” بعد هزيمة “تدمر” أراد تدمير النهضة التدمرية من جذورها فأعد محكمة في حمص (حيث كان مقر قيادته)، كانت مهمتها إعدام فلاسفة تدمر في مذبحة جماعية، في مشهد يعيد إلى الذاكرة المذبحة المتكررة بحق العلماء العراقيين بعد سقوط بغداد في 2003 وبحق العلماء السوريين منذ 2011 .
إن هذا الخيط المتصل من التاريخ المغرق في القدم إلى التاريخ القديم يستمر في التاريخ الحديث من خلال المرأة الخصبة باعثة الحضارة كـ “جوليا طعمة” التي أصدرت مجلة المرأة في عام 1913 م، و”مي زيادة”، و”ماري العجمي”، و”نازك العابد”، و”وردة اليازجي”.

اقرأ أيضاً: أبرز 10 شخصيات مؤثرة بالتاريخ السوري

ويبقى السؤال إذا كان التاريخ يشهد أن المرأة السورية هي بقعة ضوء أو نافذة ضوء فمن الذي ومتى تم ارتكاب الجريمة الكبرى بحق صورتها في وعي المجتمع، كيف انحدرت المرأة السورية من مدارج الألوهة إلى قاع التخفي خلف قناع أسود؟.
‏إن إعادة الاعتبار للمرأة السورية لا تعني فقط السماح لها بالعمل أو الدخول في تكوين المؤسسات العامة أو الخاصة أو بعض المناصب هنا وهناك أو حمايتها من العنف، بل العمل على التخلص من الفكرة التلمودية الخبيثة التي تسللت في كل الأديان الإبراهيمية ومن ثم في وعي المجتمع والتي تقول أن المرأة عورة يجب حجبها ما أمكن، وللتخلص من هذه الطامة الكبرى يجب العمل على إعادة الاعتبار لها كنافذة حضارية يدخل من خلالها المتوحشون إلى الحياة المدنية المتطورة .
وهو تساؤل ربما رأيناه مجسماً في الصورة التي انتشرت منذ أيام لمقاتلين مرتزقة يشاركون في الغزو التركي لشمال سورية وهم يحيطون بمقاتلة سورية كردية، فهؤلاء يمثلون الوعي التلمودي الخبيث وتلك الفتاة تمثل المرأة التي نطل منها على الحضارة.

اقرأ أيضاً: قيادي معارض يلتقط سيلفي مع “أسيرة” واعتقال جهادي سوري في “هولندا”..أبرز أحداث اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى