الرئيسيةيوميات مواطن

حكاية مطعس وجاره.. هكذا لم يمت الخير فينا – شاهر جوهر

السياسة والحرب لا تفرق أبناء شعب تشارك المحنة قبل الخير منذ آلاف السنين

سناك سوري – شاهر جوهر

من أقصى الريف إلى أقصى المدينة و لأكثر من عشرين عاماً، وهو يحمل رجله الخشبية ويحجز كرسيه بجانب سائق الحافلة ووجهته كل صباح وكل يوم محكمة المدينة في محافظة “القنيطرة”، ينتظر مع المراجعين ليصل دوره إلى القاضي، القاضي الذي تغير أكثر من مرة خلال تلك السنوات، سنوات بحثه عن حقه، لكن قضية “مطعس” “أبو رجل خشب” لم تتغير.

الكل في دار القضاء بات يعرفه، صاحب البوفيه يسرع ليصنع له كأس شاي سكر خفيف و بالنعناع قبل غيره من موظفي الدائرة، حتى قبل مدرائه، المراجعون على أهمية قضاياهم يفرغون له الدور ليصل إلى القاضي، القاضي الذي لا يحتاج إلى سجلات وأوراق يقرأها ليرى ما هي قضية “مطعس”، لأن الجميع يعلم أن “مطعس”، الذي جاء من قرية نائية أقصى المحافظة جاء ليستعيد أرض أجداده التي استحوذ عليها جاره قبل عدة عقود تزيد عن الأربعة بقرار من لجنة تقسيم الأراضي التي شكلت في التسعينات، حيث فقد الكثير من المواطنين ممن كانوا يضعون يدهم على أراضي مشاع وخسروها بعد تقسيم اللجنة الأراضي على الناس.

جاره هو الآخر وخصيمه كان لا يعطي لتحرك “مطعس” ضده في القضاء أي بال، فهو مطمئن أنه لم يختلس شيئاً، وأنها أرضه التي يكفله بحمايتها القانون، يركب الجار الخصيم سيارته إلى المحكمة حين تأتيه نشرة شرطية تبلغه حضوره للاستجواب، لا يرفض أي دعوة تأتيه وهو فعل يفعله من باب احترامه لجاره “مطعس”، حتى أنه بات يأخذ الأمر بنمط حياة معتاد، كما أنه بات يشعر بشيء من فراغ ونقص حين تتأخر المحكمة باستدعائه لمثوله أمام القاضي.

الأرض بالنسبة للريفي هي أغلى من أولاده حتى، فتنازل المرء هنا عن ذرة تراب لآخر هو إهانة لتاريخ العائلة، وهو أمر يدركه كلا الجاران الخصيمان جيداً، ورغم كل هذا لم تسمح تلك القضية بأن يتندر الجاران للود والخل بينهما، أو أن يتنكرا لحقوق الجيرة.

اقرأ أيضاً: “جرمانا” تضع الطعام في “البراد الخيري”: لا نريد لأحد أن يبحث عن كسرة الخبز في القمامة

فحين يولم أحد الجيران لمناسبة سعيدة يتجه إلى جاره خصيمه، وقد جرّ معه أحد أبنائه ليقرع له باب جاره، لأنه لازال مكسور الخاطر من جاره ولا ينبغي أن يلمس هو باب بيت غريمه، فيفتح الجار الباب، فيميل الجار الأول الذي قدم إلى منزل جاره رأسه باتجاه ابنه فيقول له (قل لجاري أنه اليوم معزوم على مناسبتنا)، فيكرر الابن ما قاله والده لجاره، فيرد الجار على جاره وقد أمال هو الآخر وجهه عن وجه جاره :(قل لأبيك وصلت دعوتكم، وألف مبارك، وقل له ليتفضل ليشرب القهوة المرّة).

وبالفعل لا يترك الجاران مناسبة إلا وقبلاها بينهما، حدث ذات مرة أنه في نهاية إحدى الجلسات التي استدعى فيها القاضي خصيم “مطعس” للمثول للقضاء قد انتهت كالعادة بلا أي نتيجة، فتم تأجيل الجلسة لموعد آخر، في ذاك اليوم تعطّل باص القرية، ولم يجد “مطعس” من يقله من المدينة إلى منزله فجلس على طرف الطريق فوق حجر كبيرة بحجم مؤخرته ينتظر تحت الشمس أحد السيارات العابرة، ركنت أمامه سيارة جاره خصيمه، أشغل هذا الأخير زمور سيارته ثم فتح بابها الأمامي دون أن يتحدث مع “مطعس” بحرف، حمل “مطعس” جثته وجرجرها داخل سيارة غريمه، ركبا سوياً دون أن يتفوه أحدهما بحرف، في وسط الطريق أخرج صاحب السيارة علبة تبغه، لف سيجارة له وأخرى لجاره، ثم وضعها أمامه على تابلوه السيارة، تناولها “مطعس” ثم أشاح بوجهه بعيداً عن وجه جاره ورفع لفيفته ليشعلها له.

اليوم أفتت المحكمة لمطعس برفضه قضيته، وأن نضاله خلال عقدين لأجل أرض قال أنها ملكه تبين بالدليل والشهود أنها ليست له بل لجاره، ومع ذلك هذا الأمر لم يغير شيء من معاملات الطيبة والحب وحقوق الجيرة بين الجارين، بقيت نساء الخصيمين تتبادلان الزيارات دون أن يمنعهما أحد، وبقي أولادهما يلعبون ويسهرون ويعملون سوياً، كما ويسندون بعضهما البعض في أوقات الشدة والمحنة.

في الأساطير القديمة قبل آلاف السنين قيل أن حياة واحدة لا تكفي لنكون طاهرين، بل سلسلة ولادات، لكن خلال عشر سنوات من المحنة قالها السوريين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ولآلاف المرات ولادة واحدة كافية لنتقاسم الخير والمحنة معاً، كافية لنكون طاهرين.

قبل بضعة أشهر غرق أحد شبان قرية قريبة مع ثلاثين مهاجراً في بحر “ليبيا”، وبعد أن أنقذه خفر السواحل الليبي تم إيداعه السجن وفرض عليه مبلغ مالي كبير ليتم إطلاق سراحه، الشاب الذي أغرقته الديون وأثقلت كاهله تلك الرحلة لم يعد قادراً على دفع ملّيم واحد، فتمخضت تلك الضغوط بشكل نوبة قلبية في صدره، سارع سكان القرية عند سماعهم بالأمر لجمع المال له، محبوه وحتى خصومه لم يتركوه، حتى أن بعض المدينين لذاك الشاب غفروا ديونهم المترتبة عليه لوجه الله ودعماً له أمام ضائقته، وحين عاد إلى منزله استقبله الجميع كما يتم استقبال المحبين والأبناء.

هكذا نحن، من يقول أننا أمة قد شرذمتها الحرب فهو مخطئ، السياسة والحرب لا تفرق بين أبناء شعب تشارك المحنة قبل الخير مع بعضه البعض لآلاف السنين، فقد قال المتأخرون قبلنا “من يتغذى منه الشيء فهو منه بالضرورة”، ونحن اليوم، جميعنا في الداخل والخارج منه بالضرورة لمن لا يعلم. منذ آلاف السنين ونحن نزرع لقمتنا في تربة الجزيرة ونحصدها في حوران بعرقنا ثم نتقاسم كسر خبزنا في “دمشق” والمغمس بزيت زيتون “إدلب”، فكيف يموت الخير فينا.

أعلم أن أثقل الحديث هو الكلام المعاد لكن أحبذ أن أكرر “نحن أمة لا تموت، تفشل لكن لا تموت”.

اقرأ أيضاً: “سوريا الخبز والملح” مبادرة لاستعادة “سوريا” ما قبل الحرب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى