الرئيسيةرأي وتحليل

معاً.. لتشريع «الرشوة» – فراس الهكار

دبرها ولووو… مشيها ولوووو… فساد ولوووو… رشوة ولووو

سناك سوري – فراس الهكار

“ما بيمشي الحال”، جملة شهيرة في سورية تفتح الباب على مصراعيه أمام سيل جمل أخرى تُفرغ جيوب المواطنين، وتزيد أرصدة أولي الأمر والنهي وجباتهم، في كل المفاصل الإدارية بالسياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والتعليم..إلخ، وتتبعها دائماً كلمة “دبرها” كلازمة واحدة يرددها المواطنون، “دبرها أستاذنا”، “دبرها معلمنا”، “دبرها رفيقنا”، «دبرها حبيبنا»..إلخ، من هنا تبدأ سلسلة الفساد الذي لا ينتهي، ولا سبيل للقضاء عليه في المدى المنظور، فقد أثبتت جميع الأساليب المتبعة فشلها في ظل سطوة منظومة كاملة متكاملة، وصار المواطن جزءاً رئيسياً فيها رغماً عنه.

“دبرها” ليست “آبرك دابراك” السحرية التي تستحضر ملوك الجن، وليست مسحة يد على قمقم يخرج منه المارد، ليقول لك: “شبيك لبيك..أطلب لأحقق أمانيك”، إنما هي كلمة العلن “السر” المتعارف عليها في مجتمعات عرفت بحكم التجربة كيف تتجاوز البيروقراطية الرسمية، التي لم تعرف الحكومات في دول العالم الثالث كيف تقضي عليها أو على الأقل تحد منها.

ثقة المواطن بكلمة “دبرها”، وما يليها من يد تمتد إلى الجيب فتخرج ما تيسر لها، وما ييسر أمرها، تفوق بكثير ثقته بأي إجراءات حكومية أو قرارات رسمية يمكن أن تتخذها في هذا الجانب، لذا تصير القاعدة “هين فلسك ولا تهين نفسك”، فلهذي الفلوس مفعول السحر في النفوس، تفركها بيديك فيتحول الجميع إلى مردة في خدمتك.

يدفع المواطن بالتي هي أحسن، وهي أحسن لأنها توفر الجهد والوقت و”اللت والعجن” مع موظف يركب القوانين المهترئة التي يزيد من إصراره على تطبيقها وضع المواطن بين مطرقة البيروقراطية وسندان الروتين، ولن “يزمط” منها إلا كل ذي جيب عامر.

“لا شيء مستحيل مع البرطيل”، تميمة أخرى تجعل المواطن أكثر ثقة بنفسه وهو داخل إلى أي مؤسسة رسمية، وهي تعكس ظاهرة تستحق الوقوف عندها طويلاً، بل وإعداد رسائل في الماجستير والدكتوراه عنها، رسائل حقيقية وليست كتلك المنتشرة بفعل الفلوس، ويبحث أصحابها عن ملء عقد نقصهم والاستثمار في شهادات مضروبة وشبه مضروبة تُشعر حاملها بالنشوة كلما قال عنه أحدهم: “دكتور”.

لذا لم يعد من الصعب أن تصبح “دكتور” حتى وأنت لم تدخل الجامعة يوماً، وتصبح كاتباً مرموقاً على أكتاف آخر مغمور، وإن كنت لا تميز بين حرفي الـ (ذ)، والـ (ز)، وما ذاك على جيبك بعسير، ما دمت قادراً على الدفع بالتي هي أحسن، فبوسعك الحصول على كل ما تريد بطرفة نقود.

هذا واقع الحال، الذي تكرس حتى صار عُرفاً في حياتنا، وليس تغييره في صالحنا نحن المواطنون البؤساء، وإن كنا نطالب بهذا التغيير بين فترة وأخرى، لأنه إن تغير سيجعلنا نرزح تحت وطأة البيروقراطية والقوانين المهترئة التي غيرتنا ولم تتغير، بل الأجدى من ذلك كله، هو شرعنة الدفع، وقوننة الرشوة، تحت أي مسمى آخر، وإصدار طابع خاص بكل قضية فيها التباس قانوني، وإن كانوا مُحرجين من تسميته “طابع رشوة” فليكن اسمه “طابع دعم”، أو طابع “مناهضة البيروقراطية”، ولتختلف قيمته حسب قيمة المعاملة المراد تمريرها، وهذا هو الخيار الأسلم للجميع، وقد يكون أسهل بكثير من تشكيل لجان، تنبثق عنها لجان أخرى، لإعادة دراسة القوانين والأنظمة المهترئة وتحويلها إلى لجان أخرى لتدقيقها، قبل طرحها على لجان البرلمان للنظر فيها، ثم تجربتها على أفراد الشعب.

شعرت بشيء من الدوار في رأسي وأنا أكتب، وقد تشعر كقارئ بالدوار وأنت تقرأ، فالأمر يبدو معقداً جداً، أو هكذا أريد له أن يكون، لأنك عزيزي القارئ ستجد نفسك مضطراً للدفع على أن تركب في هذه الدويخة التي لن توصلك إلى شيء بل ستؤثر على مصالحك، لذا ثق تماماً في بلاد كبلادنا، لن تكون “مبسوطاً” إن قطعت الحكومة أيدي اللصوص والمرتشين وأصحاب الواسطات الخفيفة والثقيلة والأثقل، لأنك ستضطر للانتظار طويلاً حتى تحصل على حقك في أن تكون مواطناً صالحاً له احترامه.

اليوم لم يعد “الشعراء” و”الكتاب” و”الفنانون” بحاجة لمن يكتشفهم، لأنهم باتوا يكتشفون أنفسهم، بأنفسهم، يشترون الألقاب بأموالهم وحتى النتاج الأدبي على اختلاف سويته، يحصلون عليه وفق القاعدة الاقتصادية الشهيرة “الدفع قبل الرفع”، ورغم أن هذه القاعدة ظهرت وانتشرت في أوساط “تجارة البغاء” إلا أنها في الوقت ذاته صارت قاعدة مُتبعة تحكم العلاقة ما بين الراشي والمرتشي، البائع والشاري، ولا يختلف اثنان على أهميتها، فهي عقد شفوي، والعقد شريعة المتعاقدين. وليس من يدفع هو فقط من يستطيع الحصول والوصول، بل من ترفع أيضاً، فالرفع هو الوجه الآخر للدفع، ولكن له شروطه، وللرافعين أذواق وأهواء، وكلما رفعت أكثر كلما صار شأنك أكبر.

هذي البلاد متاهة، ونحن في طبيعة الحال ضائعون، لا ندري ما نفعل، كل ما في وسعنا هو الوقوف على الأطلال، واللطم والندب على الماضي الذي لن يعود، والواقع المزري الذي سيطول، والمستقبل المجهول الذي توهمنا أن فيه خلاصنا، حتى صرنا نرى في أوهامنا حقيقة ليست موجودة، ولن تكون يوماً، فلا زمن جاء كان خيراً من سابقه، ولا حكومات جاءت خيراً من سابقاتها، ولا نحن متعظون وراضون بما قُسم لنا.

اقرأ أيضاً : السوريون بعد سريان قانون الجرائم الإلكترونية: “من صفحة لصفحة ويا مارك السِتّرة” !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى