الرئيسيةرأي وتحليل

علاقة السوريين بالجلدة قضّت على آمالي بالصمود – أيهم محمود

عن جلدة الغاز والمياه نتحدث هنا!

لم تستقر علاقة السوريين مع الجلدة على مدى تاريخهم الحديث، تناوب ارتباطهما دائماً بين العلاقات الطبيعية الهادئة وبين القطيعة التامة، وتجاهل كل منهما لوجود الآخر، ليس مهماً نوع الجلدة قد تكون الجلدة عبارة عن غطاء بلاستيكي لختم أسطوانة غاز، أو جلدة صنبور مياه، أو قطعة مطاطية في مضخة ماء يدوية، ليس مهماً مكانها ونوع المادة التي صُنعت منها، مشكلة السوريين كانت ولا تزال مع اسمها تحديداً وليس مع وظيفتها أو موضعها أو شكلها.

سناك سوري-أيهم محمود

أبدأ بذاكرتي حين وعد أحد المسؤولين في القرن الماضي، المواطنين السوريين بتركيب غطاء بلاستيكي لفوهة أسطوانة الغاز بعد تعبئتها في المعمل وذلك لمنع سرقة الغاز قبل وصولها إلى يد المواطن الكريم، هذا الإجراء البسيط وغير المُكلف مادياً يحدد بالتأكيد الجهة المسؤولة عن “شفط” قسم من الغاز من كل أسطوانة، هل الخلل في المعمل؟ أم هو في جهة التوزيع، هلل المواطنون السوريون لهذا الغطاء المرتقب، أخيراً سوف يعرفون من يسرق مالهم، وسوف يحددون هوية الفاسد الذي يعكر صفو العلاقة الحارة بين المواطن وبين أسطوانة الغاز المنزلي، مرّت الأشهر، مرّت السنوات، انقضى قرنٌ وآتى آخر دون تحقق هذا الأمل، بقيت فتحة الأسطوانة تُخفي سِر من يسحب منها بعضاً من وزنها، لا أحد يعرف ماذا يدخل إليها ولا مقدار الكمية التي تخرج منها فهذا الضياع ضروري لجني بعض الأرباح.

من يستفيد من أرباح فرق الوزن فيها؟، ربما نحتاج قرناً أو قرنين من الزمان لظهور هذه الأسرار.

في نهاية السبعينات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي أذكر جدي وهو يبدل جلدة الحنفية النحاسية الصفراء، تميزت هذه الفترة من الزمن بالعلاقة الدبلوماسية الهادئة بين جلدة الحنفية وبين المواطن السوري، كلما قَسَت مادة الجلدة وبدأ الماء بالتسرب منها عليك باستبدالها ليعود كل شيء كما كان.

في بدايات القرن الحالي اشتريت الكثير من هذه الجلدات ووضعتها في مكان في المنزل لم أستطع حتى الآن تذكره، ذاكرتي لا تسعفني وكذلك تفعل منظومة الاستيراد السورية ومنظومة الصناعات المحلية، أحتاج تغيير قلب صنابير المياه كل فترة بسبب تآكل الحلقة المعدنية العلوية أو بسبب فقدان الجلدة لمرونتها، عند سؤالي متجر أدوات صحية يديره شخص مسن يستطيع فهم لغتي الاقتصادية القديمة قال لي: كنا نبيعها برقمٍ صغير لكن هذه القطع غير متوفرة الآن، من أجل بضع ليرات فقط نرمي القلب النحاسي الذي يعادل ثمن أردأ أنواعه ٥٪ من راتب موظف في الوقت الحالي، ربما لدينا فائض من الدولارات لشراء هذه الأدوات من الصين وإيران وغيرها، لو كان القلب صناعة محلية لفهمنا الأمر كإعادة تدوير لهذا المنتج الذي يحتاجه كل منزل باستمرار.

اقرأ أيضاً: محنة العقل العربي – أيهم محمود

لا أفهم بالتحديد إن كانت الإعاقة هنا ناتجة عدم قدرة ورشاتنا المحلية على صناعة جلدة أو حلقة معدنية صغيرة، أم هي في عجزنا عن استيراد الجلدات الإضافية أثناء عملية استيراد قلب الحنفية، يصعب تحديد السبب حقاً فهو يُعتبر -كما أسلفت- أحد الأسرار العميقة لعلاقة السوريين المتوترة مع كلمة جلدة.

آخر جِلدةٍ سأتحدث عنها هنا كي لا أطيل عليكم في الكلام هي حلقة مطاطية بسيطة تحيط بأسطوانة معدنية تعمل في مضخة يدوية لضخ المياه من الآبار العميقة (الإرتوازية)، كنت قد توصلتُ في السنوات الأخيرة إلى قناعة نهائية في مسألة العودة إلى أراضينا الزراعية ومحاولة المساهمة ما أمكن في الزراعة حتى لو كانت في سبيل الاكتفاء العائلي الذاتي فقط فهو يخفف الضغط على الاستيراد وعلى ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية، سوريا التاريخية بلد زراعي ومن المعيب أن يجوع أهله نتيجة حصار، بحثتُ عن مضخةٍ يدوية للآبار العميقة دون جدوى علماً أن ثمنها العالمي يتراوح بين 100 و300 دولار.

ثم توصلت بعد جهد إلى ورشة في اللاذقية -مدينتي التي أسكن فيها- تصنعها، ذهبت إليها وسألت صاحبها عن حاجتي فقال لي: كنا نصنعها، وكنا نضخ الماء من آبار عمقها يتجاوز الستين متراً، أُعجبتُ كثيراً بسرده لهذا التاريخ المجيد، أخيراً وصلت إلى من يستطيع مساعدتي، كِدتُ أن أتورط بالهتاف ضد دول الحصار لو لم يُدركني صاحب الورشة مُكملاً حديثه بعد انتهائه من فقرة الفخر التاريخي والماضي المجيد: “لكننا لم نعد نصنعها الآن، أستطيعُ صنع كل مكوناتها في ورشتي لكن لم يعد لدينا في سوريا تلك الجلدة التي تحيط بالمكون الرئيسي فيها والتي تمنع تسريب المياه، لم يعد يستوردها أحد”.

طار الفرح كله، اختفت سكرات الانتصار من ملامح وجهي، تلك الجلدةُ اللعينةُ تقضي مرةّ أخرى على كل آمالي بالصمود، لم أعد أشعر أن الجلدة هي موضوع تافه لا يستحق كتابة مقال مطول عنه، أصبحتُ مؤمناً بأن هناك جلدة ما في تاريخنا العظيم لو استطعنا استبدالها بواحدة جديدة لردمنا الفراغ المانع للعبور بين الماضي المجيد والمستقبل الأكثر مجداً منه لكن لم أتوصل حتى الآن للأسف إلى معرفة موضعها وشكلها، لذلك سأبقى متأثراً مع إخوتي السوريين بفصول العلاقات المتوترة بيننا وبين الجلدة، آملاً أن تتحسن هذه العلاقات في يومٍ من الأيام ويتوقف “التنقيط” الحضاري ليتوقف معه إفراغ خزاننا المحدود منه قبل نفاذ كامل الكمية.

اقرأ أيضاً: امتلاك السلطة ليس كافياً لإحداث التغيير – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى