الرئيسيةرأي وتحليل

التعاطف في اللاعنف – ناجي سعيد

وقت يقولون لك: “تفضّل يا غاندي لاقي حلّ لهدول الشحّادين، عطيهم وردة يا لاعنفي أنت”

سناك سوري-ناجي سعيد

في أحد الأيام وأنا عائدٌ من العمل، فإذا بطفلٍ يقترب من سيّارة الأجرة التي تقلّني إلى المنزل، وهو يكيل على السائق بسيلٍ من الدعاء (الله يوفقك، الله يسعدك، الله يخليك أنت وعيلتك..) فما كان من السائق إلّا أن أقفل النافذة وشتم الطفل وعائلته. فدار نقاشٌ طويل في سرّي. بدءًا من السؤال الدائم: ما ذنب الطفولة لنعرّضها إلى هذه الإساءة؟ ولا يخرجني من دوّامة الأسئلة هذه، إلاّ رمي المسؤوليّة على النظام التربوي السائد في ثلاثيّة حتميّة لا مفرّ منها: الأسرة، المدرسة، المجتمع.

وذهب تفكيري إلى السؤال الأعمق، والذي يجعلني أغوص في محور اهتمامي: عالم اللاعنف. فهل يرضى اللاعنف بالظلم؟ وقد يستغرب البعض حيث يحمّلون اللاعنف، سبب مصائب العالم. فمجرّد معرفة “لاعنفيّتي”، يتساءل كلّ من في دائرة المعرفة والصداقة، وحتّى النسب، إلى تحميلي سبب مصائب تنتشر في العالم.”تفضّل يا غاندي لاقي حلّ لهدول الشحّادين، عطيهم وردة يا لاعنفي أنت”. ويُريحون ضميرهم من العذاب. كحدّ أقصى، فيعطونهم القليل من المال، “فراطة” باقية في الجيب.

لكن هذا ليس جزءًا من الحلّ. فلو يعرف هذا الشخص الذي “يعطي” المال بنيّة المساعدة، أن ذلك لا يساعدهم أبدًا، بل يزيد الطين بلّة، لأحجم عن العطاء غير المُجدي، وكما يُقال الطريق إلى الخطأ معبّد بالنوايا الحسنة. وهناك لغط بين مُصطلحين لا تعيره غالبيّة الناس انتباهًا. فالثقافة الشعبيّة تغلب العلم بالتواصل الصحيح الذي يسهم بنشر الوعي.

اقرأ أيضاً: الديمقراطية واللاعنف – ناجي سعيد

أنا ولاعنفيّتي لا نعرف الشفقة. نعم وقد يَصدُم هذا للوهلة الأولى، لكن حين نقرأ تفسير المصطلحات، ولا أقصد لغويًّا، بل في لغة اللاعنف والتواصل اللاعنفي، نفهم حقيقة الأمر. فالتعاطف يختلف تمامًا عن الشفقة. وللتوضيح أكثر، فحين نستخدم الفعل ” يشفق”، نُقحم فورًا بعده “على”. وهذا منافٍ للمنهجية التشاركية التي يعتمدها اللاعنف في فلسفته. فالتشارك لا يكون بـ”على”، التشارك مع وليس على.

نتعاطف مع ولا نشفق على. ومن هنا لا أعطي أي سائل في الطريق، فعدا عن أن السؤال مذلّة. المذلّة لا تكمن في عوز الآخرين فقط، بل بعدم تمكين الذات لتعتمد على نفسها وتقوم بجهدها كي لا تتحوّل إلى حشرة طفيليّة تقتات على رزق الآخرين. ففي اللاعنف نرى التعاطف بقوّة من خلال استراتيجيّات اعتمدها غاندي، حيث شجّع أبناء الهند بالالتفاف على نتاجهم الوطني وهذا من أهمّ أنواع التعاطف بين الشعب، فقد كان ناجعًا وفعّالاً. حيث كان أثره سلبيًّا على بريطانيا المُستعمِرة.

ومن فكرة التعاطف البسيطة، بدأت فكرة مقاطعة الملح البريطاني مثلاً. وبعدها، أتى التعاطف مع كلّ نتاج البضائع الهندية وتشجيع أبناء الشعب الواحد ليتضامنوا ويتعاطفوا، لقد أفهم الشعب الهندي الناس بأن مجال التعاطف يتخطّى مساحة المشاعر، بل يمكن تطبيق التعاطف عمليًّا بدعم البضائع المحليّة. فتشجيع التجارة والصناعة المحليّة هو عمل وطني بامتياز يُفضي إلى التعاطف والوقوف مع أبناء الوطن الواحد، مقابل الاستعمار.

والاستعمار لا ينحصر بالعمل العسكري. فالاستعمار يأتي على شكل اقتصادي وتجاري وصناعي. التعاطف هو من الأسس العملية التطبيقيّة لتكريس مجتمع لاعنفي، سلوكًا ونهجًا وفلسفة حياة. وليس التعاطف مستحيل التنفيذ، فمن الممكن أن ينجح كاستراتيجيّة لاعنفيّة بسيطة وغير مُكلفة، لا بل أقلّ كلفة، ومربحة للوطن. وأختم في مثل شعبي كنت أسمعه من والدتي، ولا أعلم في أي حقبة زمنيّة قِيل: “زيوان بلادي ولا القمح الصليبي”.

اقرأ أيضاً: مفهوم الحرية – ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى