الرئيسيةرأي وتحليل

هل معاقبة متعهدي البناء ستحمينا من الزلزال القادم؟

انهيارات الزلزال الأخير 90% جهل و10% فساد

تتعالى أصوات المطالبين بعقاب عدد من المتعهدين كمسؤولين حصريين عن انهيار بعض الأبنية في “سوريا” في زلزال وصل إلى مناطقنا في أعلى درجات المتوسطة وأدنى درجات الشديدة.

سناك سوري _ أيهم محمود

لم تصلنا الشدة التي انطلقت في بؤرة الزلزال، البعض يقول أن الجانب التركي بدأ باعتقال متعهدي البناء، فلماذا لا نفعل نحن ذلك أيضاً!.

يبحث الجميع هنا عن راحةٍ سريعة لضميره المُثقل بالحقيقة القاسية على نفوس الكثيرين، نحن جميعاً مشاركون فاعلون في هذا الخراب، لذلك ندفع بقوة باتجاه ظهور القضية برمتها وكأنها متعهدٌ فاسدٌ فضحه زلزال، سنقوم بسجنه لكي نعود إلى نقائنا الفطري، ولكي يكتمل تقدمنا العلمي والتقني فنعود إلى سيادة العالم في الأبحاث والتطوير وبناء الأبنية المقاومة للزلازل.

لكن للأسف هذا غير صحيح بالمطلق، في زلزالٍ آخر يصيبنا بقوة زلزال “غازي عنتاب” سنعاني من دمار شديد، لن يفيدنا إرسال المتعهدين إلى السجن الآن لأننا سنذهب نحن لاحقاً إلى القبر بعد أن خدّرنا أنفسنا مرةً أخرى بذبح الأضاحي بدل أن نصحو جميعاً بعد هذا الزلزال الإنذار.

حين يحدث زلزال في بلدانٍ تحترم العلم لا يرسلون الشرطة إلى موقع الزلزال لاعتقال الناس، بل يرسلوا العلماء والباحثين ليتعلموا من الانهيارات التي حصلت وليطوروا فيما بعد أساليب البناء.

من يُرسل الشرطة إلى المناطق المنكوبة عليه أن يعتذر للناس، سواء في “تركيا” التي يستشهدون بها وكأنها معجزة علمية وحقوقية أو في أي مكان آخر، لأن المسؤول الذي لا يعلم ما يجري حوله لا لزوم له، وإن علم وصمت لسنوات طويلة عما يحدث فهو مُشارك وليس مُحاسب.

اقرأ أيضاً:أصحاب مكاتب عقارية يستثمرون الحدث للترويج لأبنيتهم.. صار عندن ريختر يمكن

عملية البناء تتم خلال سنوات طويلة بل خلال عشرات السنوات فإن فضحها زلزال فهي ليست مسؤولية فرد بل مسؤولية ثقافة وتواطؤ جماعي، من خبرتي الهندسية أقول وبثقة تامة أن الانهيارات في الزلزال الأخير سواء في “تركيا” أو “سوريا” هي 90% جهل و10% فساد.

لنعترف أن متعهدي البناء يعلمون أن الخطأ في الأبنية قاتل وهو خطأ مفضوح سيقودهم إلى السجن حتماً، لا أعتقد أن هناك عاقلاً منهم يتورط في غشٍ مفضوح إلا إذا اعتقد أن غشه هذا لن يكشف، أي أن المبنى سيبقى آمناً، هم يسكنون البيوت التي بنوها ويُرسلون أولادهم وعائلاتهم إليها، لا أحد على الإطلاق يبني مقبرة لأحبته، ليس لدينا دافع إجرامي هنا، بل لدينا جهل كارثي، جهلُ عدد كبير من الناس كما سأبيّن في السطور التالية.

إن سقط بناء في منطقة عشوائيات وقبل تحميل البنّائين مسؤولية موت الضحايا، لنسأل أنفسنا لماذا لم يُتح لهؤلاء السكن في منطقة منظمة؟، لماذا سكنوا العشوائيات؟، كلفة بناء المنزل هي ذاتها، لماذا لم يستطيعوا البناء فوق عقارٍ منظم؟، لماذا تأخرت المخططات التنظيمية لدينا سنوات طويلة حتى تشوهت مدننا نهائياً بالعشوائيات، هل منعنا الناس عمداً من الحصول على منزلٍ لائق فذهبوا إلى خيارات أخرى؟، الحياة لن تتوقف عشرة أعوام أو عشرين منها حتى ينتهي البعض لسببٍ مجهول من إعداد مخطط تنظيمي لتوسع المدينة.

لدينا ورشات بناء ضعيفة فنياً، لقد تعقدت صناعة البناء وبدل تطور ورشاتنا تراجعت معارفها بشدة، لا يستطيع المقاول ضبط هذه العملية، ولا حتى المهندس يستطيع ذلك، ولا كل الإدارات الرقابية، ساحة البناء مثل ساحة الحرب متى انطلق الجنود فيها لا يمكن التحكم فيهم إلا في القليل من مجريات الحرب ووقائعها.

الأساس في الانتصار فيها هو تدريب الجنود ومعرفة كل عنصر بدقة لمهمته وإتقانها بشكل جيد أيضاً، هذه الصورة تنطبق بشكل تام على صناعة البناء، لقد أهملنا تدريب الورشات واختبارها، لا يوجد لدينا عملياً نظام تصنيف للورشات، لا نعلم مدى مقدار أهليتها، ما نهتم به فقط هو رخص أسعار خدماتها، تعاملتُ مع ورشات بناء قبل عشرين عاماً في “سوريا” ثم تعاملت لاحقاً معها بعد انقطاعٍ طويل عن العمل الميداني، يوجد تراجع خطير جداً في مهاراتها ومعارفها، نحتاج خطة تصنيف شاملة للورشات، نحتاج خطط تدريب لها إن كنا نريد ألّا نندفن جميعاً تحت الأنقاض.

اقرأ أيضاً:عبد اللطيف: تأمين 300 منزل مسبق الصنع خلال شهر

قبل عدة أشهر من الزلزال كان النقاش قائماً بين المهندسين، هل يجب دراسة الأبنية المؤلفة من 4 طوابق أو أقل لتتحمل القوى الزلزالية؟ أم يكفي تنفيذ البناء بشكل سليم وجيد ليصمد أمام الزلزال دون أي دراسة خاصة نظراً لانخفاض ارتفاعه؟، المشكلة أن الأبنية قليلة الارتفاع في بعض المناطق معرضة لخطر الانهيار أكثر من الأبنية العالية، بل سأزيد معلومة أخرى، في هذه المناطق الخاصة، ستنجو الأبنية العالية وستسقط الأبنية المنخفضة!، مازال الكود الزلزالي حديث نسبياً في “سوريا”، كثير من المهندسين لم يدرسوا أسسه النظرية في الجامعات، حال المهندسين في هذا المجال بشكل عام ليس أفضل من حال ورشات البناء، لذلك يتم تناقل معلومات خاطئة، معلومات خطرة للغاية، لو أدركوا خطورتها لما تداولوها بينهم بكل هذه الثقة بالنفس.

الممارسة السورية المرعبة الأخرى هو شراء بعض الناس لأسطح الأبنية ثم يصدر قرار لاحق بالسماح ببناء طابق إضافي في هذا الحي ليصبح السطح ذو الثمن الرخيص طابقاً يحقق لهم أرباحاً فاحشة في الأحياء المهمة من الناحية الاقتصادية، في معظم الحالات يتم اكتشاف إمكانية إضافة طابق إلى البناء القائم، واكتشاف أن البناء سيقاوم الزلازل أيضاً!، وهو أمر يجب أن تدرسه الجامعات السورية، ويدرسه كل من ساهم في وضع الكود السوري للبناء لأن فيه هدرٌ في المواد يسمح ببناء طابق إضافي رغم عدم وجوده في الدراسة الأساسية، لا أعلم لماذا لا يكون قرار إضافة طابق يخص فقط الأبنية التي ستُبنى بعد صدور القرار؟، الجميع هنا يعلمون أن هذا ما سيحدث عند صدور القرار، سيتم إضافة طوابق كثيرة في الحي بفعل الضغط الاقتصادي، إذاً هي مشاركة الجميع، وهي رضا الجميع أيضاً.

اقرأ أيضاً:تقديرات 1000 مبنى بحاجة هدم في حلب .. ودعوات لتمويل إعادة إعمارها

يفترض كود البناء السوري وجود فواصل بين الأبنية لكي يمنع تصادمها أثناء الزلزال، يفترض أيضاً أشكالاً منتظمة للأبنية تحسن من مقاومتها للزلازل، تفرض بعض الكودات العالمية توصيات تخص نسبة ارتفاع البناء مقسومة على البعد الأفقي الأدنى له لكي يكون أكثر استقراراً، نحتاج أحياناً إلى وجود جوائز متدلية في الإطارات وهو يتعارض مع ارتفاع الطابق الشائع في السنوات الأخيرة، هناك عشرات الشروط الإنشائية التي تتعارض مع نظام ضابطة البناء، المشكلة في الحالة السورية أن كل قطاع ينظم أموره لوحده دون تواصل فعّال مع بقية القطاعات.

يجب أن تتوافق قوانين تنظيم المدن مع احتياجات الكود السوري للتصميم الزلزالي خاصةً أن “سوريا”  تقع في منطقة زلزالية خطرة، يجب أيضاً تدريس الهندسة الزلزالية في كلية العمارة كمادة رئيسية، على الأقل على مستوى الاشتراطات والتوصيات العامة.

القضية الأهم التي لاحظها الكثير من الناس من غير أهل الاختصاص هي تضرر أحياء معينة بشدة بينما بقيت أحياء أخرى دون أضرار كبيرة،  هنا لا تُفسِّر نظرية الفساد هذه الظاهرة، فالفساد في المجتمع واحد، والخراب الشديد بعضه في أحياء مرخصة منظمة وفي أبنية حديثة بعضها مصمم لمقاومة الزلازل، هناك عوامل تتعلق بتربة التأسيس، وبنوع طبقات التربة في أعماق أكبر من منسوب التأسيس بكثير، أهم انتقاد ياباني لما حدث في “تركيا” أوردته صفحة “اليابان بالعربي” في موقع “الفيسبوك” على لسان أحد الباحثين اليابانيين حيث قال أن « بعض الدمار في تركيا كان بسبب سماح الإدارات التركية بالبناء فوق أرض لا يجب البناء عليها»، وهي فكرة مهمة جداً، يجب إجراء مسح جيولوجي كامل، وإجراء سبور عميقة تنتهي بإنجاز تصنيف جيوتكنيكي كامل للمنطقة، بناءً على هذا التصنيف يتم إصدار المخططات التنظيمية التي تحدد عدد الطوابق وأسلوب تأمين البناء زلزالياً.

عدد نادر من المختصين في “سوريا” يعي خطورة هذا الأمر، كل إدارة تعتقد أن قرارها منفصل عن قرار الإدارات الأخرى، هناك شيء أقوى من الصخر نستطيع بناء أبنيتنا فوقه: “العلم والمعرفة” و”التنسيق بين فروعها المختلفة”، وهذا ما أهملناه كثيراً، لقد تأثرنا بشدة زلزالية كان يجب أن تمر بسلام دون حدوث أضرار كبيرة في الممتلكات والأرواح، للأسف التضحية بمتعهد أو حتى بمئات منهم لن يُنجينا من الموت في زلزالٍ آخر قادم، لأننا نحاول تخدير ضميرنا بدل أن نستيقظ من غفوتنا ونعترف بمسؤوليتنا جميعاً عن تراجعنا العلمي والتنظيمي.

حياتنا وحياة أولادنا مسؤولية قراراتنا الآن، ومسؤولية صحوتنا المطلوبة سريعاً، فقد نُدرك إن صحونا بعض ما فاتنا ونحن غارقون حتى العظم في الغرور والاستعلاء على الآخرين وعلى ما يقدمون للبشرية من علوم ومعارف.

الدمار الذي شاهدناه حولنا يجب أن يكون ساحةَ بحث وتعلم وليس ساحة انتقام يُخدر وعينا ويمنعنا من فهم دروس هذه التجربة القاسية على نفوسنا جميعاً.

اقرأ أيضاً:مصير الدول التي تحتقر العقل والضمير – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى