الرئيسيةرأي وتحليل

هروب المجتمعات من ضميرها – أيهم محمود

ابتهج لأن المتسولين أغنياء وليسوا حطام بشر.. وفر تلك المبالغ التافهة التي كنت تضعها بين أيديهم لكي تخدر ضميرك!

سناك سوري- أيهم محمود

قبل يومين قرأت الخبر المكرر للمرة الألف ربما في حياتي القصيرة: اكتشاف مبلغ يتجاوز المليون ليرة سورية إلى جانب جثة شحاذ متوفي، حماس مشاركي هذا الخبر ربما أنساهم فهم قيمة هذا المبلغ المزعوم إلى جوار جثته، المبلغ كله يعادل نصف راتب شهر لموظف من فئة أولى قبل عام ٢٠١٠ وهو أقل من ذلك بكثير بالنسبة لدخل الأعمال الخاصة، لا أحد سينتبه إلى هذه المقارنة فالمخدر الموجود في متن الخبر أقوى بكثير من أن يسمح للعقل بالتحرك ومقارنة الأرقام.

هذا الخبر ليس محلياً بل خبر دوري تطالعنا به الصحف ووسائل الإعلام المختلفة في البلدان الناطقة بالعربية، وهو خبر عالمي أيضاً وإن كنت غير قادر على رصد مقدار انتشاره بفعل حواجز اللغة وعدم اهتمامي بتلك الأخبار التي لا قيمة لها، لماذا تصرّ الصحف ووسائل الإعلام على تصوير هؤلاء البؤساء في الشوارع كأغنياء يخزنون الأموال؟ ما هي نسبة من يملك المقدار الكافي من المال للعيش بكرامة ومع ذلك يصرّ على التسول والبقاء في الشمس والمطر من أجل بضع قطعٍ نقدية صغيرة، قد تكون هناك حالات شاذة نادرة تؤطَر ضمن عنوان الانحراف الإنساني لكن علينا أن لا نهرب من ضميرنا الإنساني لنصور جميع المتسولين أنهم أغنياء ونحن -الذين نعطيهم القليل من المال- الفقراء الحقيقيين، فقراء المال مقارنةً بهم وفقراء العقل لأن هؤلاء الأشرار قد استطاعوا خداعنا! وانتزاع أموالنا منا.

اقرأ أيضاً: مائة ليرة سورية دخولية منزل! – أيهم محمود

لا يجب أن يسأل المجتمع نفسه لماذا تزداد أعداد المتسولين، ولماذا يزداد البؤس والفقر في مجتمعاتنا، لماذا لا يهتم أحد بهذا اللحم المكوم في الشوارع والمعرض للأمراض والبرد والمطر والمعرض لكل أنواع العنف والجريمة بوصفهم كائنات قد تم سلبها كل حقوقها بما فيها حق تعاطفنا الإنساني معهم والذي يريد البعض سلبنا إياه عبر استخدام قوة وسائل الإعلام والتي هي أداة ضبط للمجتمعات وأداة ناعمة للجم وعيه وتعطيله.

الإعلام الذي يُفترض به أن يكون أداة تحرر وأداة وعي وأداة تقدم يتحول إلى مخدر للضمير الإنساني، مخدرٍ مغلف بالسكاكر لكي نبتلع بسعادة هذا الدواء المر، هذا الدواء السام، دواء التخلي عن إنسانيتنا وعن تعاطفنا البشري لصالح التبلد العام، لا يهم كم تطحن الفوارق الطبقية من البشر وترميهم في القاع، في النفايات، في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان، فالحيوانات يُسمح لها بتناول غذائها في الطبيعة أما هؤلاء البشر فنحن نرميهم للموت البطيء موت الجسد وموت الكرامة وموت إحساسهم بالانتماء إلى عالم البشر لذلك يحرص من رماهم في هذا القاع على إكمال مهمته ومنعنا من مد جذور التعاطف مع قضيتهم ومع إنسانيتهم المهدورة، هم أغنياء وأما نحن فحمقى مخدوعون بهم هذا هو فحوى خبر اكتشاف شحاذ غني!.

نحن نحب هذا المخدر لأنه يعفينا من واجب أن نكون من البشر ونسأل من فعل بهؤلاء ما فعل ويعفينا أيضاً من الخوف المشروع أن نصبح مثلهم في يومٍ من الأيام، عاجلاً أم آجلاً ستتسع دائرة الجوع والفقر وتتزايد الأزمات الاقتصادية لنرى أنفسنا معهم، في موقفهم، لكن ربما سيكون فات الأوان على إدراكنا مدى فداحة نتائج تخلينا عن تعاطفنا الإنساني، مرحباً بكم في عالم الأغنياء المتسولين!.

اقرأ أيضاً: حاجة السوريين إلى عقد اجتماعي جديد- أيهم محمود

لا تسأل، لا تفكر، لا تتعاطف مع آلام غيرك، اهتم بنفسك فقط، حاول النجاة لوحدك ولو أغرقتَ بتصرفك هذا كامل السفينة ومن فيها، كن أنانياً، طماعاً، متبلد الإحساس، لا تزعج الكبار فهم لا يحبون ضجيجك، اقرأ أخبارهم بصمت، ابتهج لأن المتسولين أغنياء وليسوا حطام بشر، وفر تلك المبالغ التافهة التي كنت تضعها بين أيديهم لكي تخدر ضميرك حين يتمرد عليك وعلى مخدرات إعلام من يسيطرون على المجتمعات، ابتسم وافرح وأنت تظن أنك لن تصل إلى ما وصلوا إليه، ابحث بهمةٍ ونشاط عن المواد الإعلامية المثيرة مثل هذه الأخبار وأخبار صراعات المشاهير وطلاقهم وزواجهم ونزواتهم الجنسية، كن دوماً كائناً مطيعاً، إياك ثم إياك أن تقرأ أن نصف بالمائة من عدد سكان العالم يملكون من الثروات أكبر مما يملك بقية البشر في الكرة الأرضية، انتبه جيداً لهذه الوصايا كي لا يصحو فيك الضمير فتعاني المرارة مرتين يوم تفهم الحقيقة ويوم تنضمّ وأنت مبتسم إلى مجتمع السعادة: مجتمع الأغنياء المتسولين.

اقرأ أيضاً: سوريا وخطر الانقطاع العلمي- أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى