الرئيسيةرأي وتحليل

نخب علمية لم تَرُدّ لمجتمعها تضحيته – أيهم محمود

ترى هل لو مُنح الموظف السوري أجورا تعادل مثيلاتها بالخارج سيتحسن حال المجتمع والعمل؟

سناك سوري-أيهم محمود

للعلم أبناؤه المخلصون، أبناءٌ حقيقيون لا يقايضون الانتماء بالمال، دفع الكثير منهم عبر التاريخ أثماناً باهظة نتيجةً لشغفهم به ونتيجةً لاعتمادهم صوت العقل في مجتمعاتٍ اختنقت بالغيبيات إلى أن تفككت واندثرت، لم ينتظروا مالاً أو مديحاً بل قاموا بما يتوجب عليهم من عملٍ دفع بعضهم حياته ثمناً له.

أستحضر هنا ذاكرة حوارٍ مع بعض الزملاء في العمل، نقاشٌ موضوعه أسباب عدم تأدية الموظفين لعملهم بإتقان وإخلاص. تعددت الأراء بين العقوبات الواجبة والحوافز الغائبة، إلى أن حاول زميلٌ لي حسم الجدل بقوله: “لو منحوا للعاملين أجوراً تعادل أجور أمريكا -على سبيل المثال- لأصبحت أعمالنا بمستوى إتقان عملهم”.

انتدب مجتمعنا عدداً من أبنائه وأرسلهم إلى دول العالم المختلفة لرفع سوية المعرفة فيه، عاد المنتدبون وأنجزوا نصف المهمة الموكلة لهم عبر زيادة مساحة المتعلمين دون النجاح في زيادة مساحة خلق المعارف الجديدة ومن بعدها خلق الابتكارات التالية لها، تحولت البعثات العلمية إلى ميزة اجتماعية يتدافع الطلاب للاستحواذ عليها بدل أن تكون عبئاً ثقيلاً يُرهق كاهل من وقع الاختيار عليه، وكيف لا وهو سفير مجتمعٍ رغب في تغيير واقعه عبر بضعة أشخاص فقط أحدهم هو، عادت الأغلبية الساحقة منهم ليعملوا موظفين فقط أو مدرسين في الجامعات، مدرسين بدلاً من باحثين أو مبتكرين، أو على الأقل مترجمين!.

نعم مترجمين، مترجمين لعشرات آلاف الكتب العلمية في اختصاصهم من اللغة التي نفترض أنهم قد أتقنوها خلال مدة ابتعاثهم إلى اللغة الأم التي تحتاج جهودهم حقاً في هذا المجال، فهل يستطيع قرّاء هذه المقالة حصر عدد الكتب المنشورة من قبل جيوش المبتعثين العائدين إلى عقلية الموظف الذي لو أعطيته ملايين الدولارات كراتب شهري سيقول ولماذا أعمل إن كنت أستطيع أخذ المال دون تعب!، هذه كانت إجابتي على الحوار مع زملائي في العمل.

اقرأ أيضاً: محرقة الفيسبوك – أيهم محمود

لم تنتشر في مجتمعاتنا فكرة دافعي الضرائب، ولم يستطع مواطنو هذه المجتمعات إدراك حقيقة أنهم الدولة، وأن مالهم مالها، وأن ضياعه هو ضياع أموالهم، وأن مليارات الدولارات التي تم صرفها على البعثات العلمية كانت على حساب طعامهم وشرابهم ولقمة أطفالهم تضحيةً من جميع أفراده في سبيل نخبةٍ علمية، لم ترد لمجتمعها تضحيته ولو عبر ترجمة كتاب واحد، لو ترجم كل مبتعثٍ منهم كتاباً علمياً واحداً فقط لأصبح لدينا بضع آلاف من العناوين المهمة في كل الاختصاصات، إن كانوا قبلاً محكومين بقواعد النشر الورقي والتمويل اللازم له فما هي حججهم في عصر النشر الرقمي؟.

المال لا يصنع التزاماً، ولا يصنع عالماً، العلم شغفٌ بل عشق بين الفرد وبين المعرفة وما لدينا في معظم حالات المبتعثين زواجٌ تقليدي، أو زواجٌ بالإكراه، أو زواج مصالح، بدلاً من زواج انتماء، وزواج حب، وزواج إن فقدتَ فيه شريكك فقدتَ روحك معه، هناك الكثير من أبناء المجتمع يحملون هذا الشغف وهذا العشق فما هو الخلل الذي منعهم من أن يكونوا هم في مكان هؤلاء الموظفين الذين لم تصل هممهم إلى حد الترجمة فكيف لو طالبناهم بالابتكار وبالاختراع وتأليف الجديد.

لدينا مكتبة علمية فقيرة جداً مقارنةً بمكتبات دول العالم المتقدم، ليس في سوريا فقط بل في جميع الدول الناطقة بالعربية رغم كثافة وضخامة عدد البعثات العلمية، يعود الجميع من بعثاتهم لحصد الألقاب فقط والتحول إلى موظفٍ عادي ثم تحميل الدولة والمجتمع الذي انتدبه مسؤولية فشله، لو كان المجتمع لا يشعر بنقصه لما انتدبهم، هو يعي تماما نقصه لذلك حرم نفسه من بعض خيراته وأمّن لهم أجور السفر والتعليم والغذاء والسكن وعندما عادوا إلى بلادهم كان المجتمع البسيط هو السبب في فشلهم!، لقد فعل ما بوسعه فهل فعلوا هم ما بوسعهم حقاً.

اقرأ أيضاً: هل يواجَه الغزو الأميركي بالانعزال الثقافي؟ – أيهم محمود

هل خلقوا أعمالاً جديدة؟، مهناً جديدة؟، هل غرقوا في أبحاثهم في مخابر جامعاتهم؟، هل استفادوا من تجهيزات ثمنها مليارات الدولارات وهي متوفرة بين أيديهم حقاً لا وهماً، هل أسسوا قواعد صلبة لصناعة البرمجيات على سبيل المثال أو لصناعات علمية أخرى، هل كان لهم مؤلفاتهم الخاصة باللغة العربية وباللغات الحية التي نفترض أنهم أتقنوها خلال دراستهم، لو كانوا حقاً هم الأجدر بالابتعاث وليس غيرهم: لماذا لم ينبت هذا القمح؟ والأرض خصبة والماء متوفر، إنها البذور، العلة فيها، يصعب حجب الشمس هنا بغربال.

الذي ينتظر المال لن يؤلف ولا حتى ورقة واحدة، نحن في زمن مدونات الطلاب التي أصبحت تجارةً رابحة بدل زمن الكتاب الجامعي الالكتروني على الأقل في حال القلة وضعف قدرة الشراء، لا أعلم إن لم يكن هذا وقت تكثيف عمليات التأليف -أو الترجمة على الأقل- فأي الأزمنة اللاحقة للنزيف العلمي في بلادنا سيكون الوقت المناسب للبدء بها.

العلم شغفٌ ذاتي، ماءٌ انحبس في جوف الأرض فتدفق ينابيع لا تستطيع كتمه لا من أجل مكانة اجتماعية ولا من أجل مال، فهل ما لدينا ينابيع حقاً، نتمنى وهماً أن تكون كذلك.

اقرأ أيضاً: ثقافة تقبيل اليد – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى