الرئيسيةيوميات مواطن

كل “قصار القامة” يتواسون بالأحلام التي لا يجيد هذا الشرق الاستماع لها!

حتى أمي التي تلفظ كتب الفلسفة بـ”الفسفسة” لا تريد سماع حلمي!

سناك سوري – شاهر جوهر

مديري في المدرسة رجل براغماتي، ثخين وتغصّ أردافه باللحم، محترم و يكره فكرة أن المدير الناجح هو من يطاع دون إصدار الأوامر لهذا أجده لا يبخل بأوامره عليّ. ربما لأني أقصر مدرس في شركته، لكنه لا يقرأ لفكتور هوغو لأنه لا يقدّر أن عظمة الشعوب لا يحددها عدد أفرادها وعظمة الفرد لا تصنعها قامته. وأكثر شيء لا يعيه حقاً هو أن أثقل الحديث هو الكلام المعاد، فكل صباح يردد الحديث ذاته، إذ يحدثني ببضع كلمات يجزئها بالحديث مناصفه بين مشاكل الطلاب وبشكل مقتضب وعجول عن الحال الذي آلت اليه البلاد بعد الحرب.
دنوت بكرسيي منه أكثر وقاطعته مهتماً:
– أتعرف يا مديري المثقف، البارحة حلمت حلم، لم أخبر أحد به، لكنك الوحيد الذي سأبوحه لك
– خير بالصلاة على النبي
– استيقظت الساعة الثالة فجراً، وقد أيقظني ذاك الحلم .. كان رهيباً.. فظيعاً .. ثم .. لم تنظر إلى الساعة يا مديري المحترم ؟
– إنها تدق الثامنة لنُدخل الطلاب إلى صفوفهم ثم تكمل حلمك

الطلاب في الباحة بكافة الأشكال الهندسية، الطويلة والمربعة والمدورة وبعض الوجوه المعوجّة والمخرشة والتي لا أجد شكلاً هندسياً يلائمها، والكل ينظر إلي ويبتسم، لكنني أحفظ النصائح جيداً، خصوصاً نصائح مديري تلك التي يكررها في الاجتماع الأسبوعي والتي تقول (لا تعطوا الطلاب كامل حريتهم، لازالوا صغاراً على الديمقراطية) لهذا لا أرد ابتساماتهم، وليس لأني لا أريد أن أورثهم “بلاهة ابتسامتي” كما تقول أمي.

في هذه الأثناء يزحف المدرسون وراء بعضهم كسالى و متثاقلين إلى صفوفهم وبلا أي وجهة تماماً كأغنام بانورج، بعضهم يدحل بطنه أمامه مغتاظا، وآخر ارتسمت على وجهه خطوط ناشفة من الدمع جراء ركوبه دراجته النارية في هذا الصباح البارد، وثالث يهرش بطنه ثم يدخن آخر سيجارة نكد وهو يردد عبارته المكررة كل صباح ( ليقطع الله عمر هذه الحرب) .
لكن وحدهن المدرسات مثل سائر كل النساء في هذه البلاد لم تلوثهن هذه الحرب، يتمايلن إلى الصفوف بكامل الأناقة والرشاقة. في حين لا يقوى قلبي إلا وأن أوزّع ابتساماتي لهن هنا وهناك.
وما إن تأتي رحاب، حتى ينشرح وجهي لجميلة الهندام تلك.

اقرأ أيضاً: آخر رسائل الجنوب – شاهر جوهر

بعيداً عنها يسحبني ذاك المدرس النكد، يسحب على سيجارته بملل ثم يبدأ شكواه بهدوء:
– أجدك رجل فَهم، ولديك نظرة مقبولة للحياة، كما أنك إنسان محترم، أنت تعجبني وأنت تعرف ذلك
– أصبت، أنا كل ما قلت
– عندي سؤال لم يجبني عليه أحد، لا في هذه المدرسة المقيتة، ولا في الجريدة المملة، ولا في التلفاز الكئيب، ولا حتى في هذه الوجوه المتعبة للمتمردين، برأيك المتواضع هل سيطول هذا القرف وهذه الحرب أكثر من ذلك؟
أفرك بملل حنكي بكعب يدي:
– هل لديك معرفه بتفسير الأحلام؟
– ألا تعرف أن من يجيب السؤال بسؤال أحمق؟
– لا، لكن ألا تعرف أن من ينتظر نهاية هذه الحرب ستقصف عمره قبل ذلك؟
– قصف الله عمرك على هذا النكد .. طيب وماذا حلمت، هل بستة مدرسين عجاف مملين مثلك ومديرهم سمينهم سابعهم؟ كل الناس تحلم، عادي، زوجتي تحلم، أبي في حضن أمي يحلم، حتى بقرتي كل يوم تجأر آخر الليل وعندما أتفقدها أجدها تغط في نوم عميق، عادي أيها الممل كل قصار القامة الحالمون في هذا البلد يتواسوا بالأحلام
فجأة تحجز “رجاء” بين حديثنا، فهذه المعلمة تدس أنفها بين كل أذنين، إذ لم أكد أبدأ سرد حلمي حتى نطت بقربنا بأطرافها الطويلة وجلبابها الأسود. فكلما نظرت إلى حجابها الأسود في هذه القرية المحافظة يخيل إلي أنها قامت بلف شعرها تحته معقوصاً كذيل دجاجة سومطرة، وهي موضة دأبت النسوة على اتباعها لغواية الرجال في هذه القرية في الفترة الأخيرة، مع الاحتفاظ بظلال خضراء من المكياج رسمت حول العينين. ولو أعلم أن الحكومة تبيح حلبات الفايت للدجاج والديوك لكنت جزمت لك عزيزي القارئ أن هذه الدجاجة، أقصد هذه المدرسة ستكون بطلة الموسم.
دائماً تجدها في حالة تذمر، سمعتها ذات مرة تندب حظها الميؤوس منه لرفيقتها في حصة الفراغ، قالت بأسى :
– نعم، آه، نعم إني مسحورة يا صديقتي، قالت لي أم علي المخاوية أن العرسان في هذه القرية لا يلاحظوا جمالي لأن أحدهم كتب لي حجاباً
– حجاب!
ردت زميلتها مواسية باستغراب
– نعم حجاب لأبقى عانساً، أعرف من فعل ذلك، إنها تلك الشلقة جارتي من تلعب بعقول الرجال، إنها تغار مني
– هل عادت أم علي لعملها في فك السحر؟
– إياكي أن تخبري أحداً ، لقد حلفت لها على المصحف أني لن أخبر أحداً لكشف طالعي وفك السحر
– لا توصيني في ذلك فأنا أدرى بهذا الحال أكثر منك. يا لك من مسكينة
– آه ، الحاسدون كثر يا صديقتي

كل ما تذكرتها أتذكر ذاك الحديث، مسحورة! على جمالها أم مالها، ليتني أستطيع أن أقول لها أن كل من في القرية رزق بنتاً معتوهة يسمونها رجاء، فكيف لها أن تكون مسحورة.

اليوم و كالعادة وقفتْ خلسة على مرمى نفس مني ومن سيار، ضحكت بدون مبرر للضحك ثم أقفلت ضحكها مسرعة، فهي دائماً تلّوح بإصبعها في وجوه الطلاب مرددة (البيوت أسرار يا طلاب) لكن ليتها تعلم أن على كل شباك وباب هناك معلم مثلها يسترق السمع:
– القانون قانون أيها الأستاذة ألا يكفي تغيبكما المتكرر، وتأخركما عن الدوام، لو سمحتم ليتجه كلاكما لصفه وطلابه وإلا ..
أنا ومثل إنسان ستشوان الطيب أحترم القانون، وأكره الـ (وإلا )تلك التي ترددها دوماً، بل التي يرددها الجميع بعد الحرب، لهذا أجدني أستمع لكلامها بكبرياء حتى لو كان زائفاً، ثم أجر نفسي متجهاً إلى طلابي لعل أحدهم يستمع لحلمي. وبيني وبين نفسي أردد ما قاله بريخت يوماً “إن الطيبة طبيعية في الانسان، أما القسوة فإنها تتطلب جهوداً كبيرة. غير أن ثمن الطيبة في عالم كعالمنا، غالبا مايكون مرتفعاً”.

اقرأ أيضاً: حين أصبح “الفقر” رجلاً لجأ إلى ألمانيا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى