الرئيسيةيوميات مواطن

بقرتنا الحمراء المحقِقة للأمنيات تعاني من وهن العزيمة

من يعيد لأبقارنا عزيمتها الموهونة؟!

حين كنا صغاراً كنا نلتئم بدفء حول جدتي لتسرد لنا حكاية “بقرتنا الحمراء” تلك البقرة المحققة للأمنيات، تماماً كما في الأساطير الهندوسية التي تتحدث عن “كامدهينو” البقرة اللطيفة التي عاشت في عالم الآلهة لتلبي رغبات الفقراء على الأرض، كذلك بقرة جدتي الحمراء كانت تطعم ذاك الفتى اليتيم والفقير أي شيء يتمناه من مؤخرتها، فبدل أن تلفظ الفضلات والزبل فهي تلفظ الأمنيات.

سناك سوري – شاهر جوهر

هذه اليوتوبيا السردية في المخيلة الشعبية لا تقتصر على الأجداد والجدات، فالبقرة في الريف، حتى اليوم، مخلوق مبارك ومحقق للأمنيات عن حق، تمنحنا من ضرعها اللبن ومن مؤخرتها السماد العضوي والجلّة، ومن كتفيها اللحم في نهاية مسيرتها، لا عجب إذاً أن تقدسها بعض الشعوب في كثير من الثقافات كما في قبائل الدينكا الأفريقية.

لهذه المبروكية، التي لا تصل لحد التقديس لدينا، نهبتْ اليوم ساقاي مع جار لي الطريق الضيق الدبق بالطين، وعند مدخل زريبته، كانت الديكة والكلاب قد انتشرت في محيط منزله، وحين كشفت أشعة الشمس باب الخان الحديدي الصدء و المطلي بالزفت ولجنا إلى داخل الخان حيث لاح أعلى الجسر الخشبي الذي يحمل سقفه حبل ممدد ومطوي يأخذ شكل أرجوحة تُرك طرفه الآخر حراً من غير عقدة، ولو لم يخرخر شبح في زاوية الخان لما تحسستُ مكان بقرته المتوحشة في هذا المكان المعتم.

اقرأ أيضاً: رفع سعر النخالة العلفية 250%.. يعني نودع الحليب؟

فقبل أن يطلب ذاك الجار مساعدته لرفع بقرته بذاك الحبل وحملها على النهوض قال لي إنها «بكرية شابة، وهزيلة قليلاً وتحتاجنا لمساعدتها على الوقوف كي تتمكن صغيرتها من رضاعتها ولكي تتمكن هي من تناول العلف»، فقد أصيبت بوهن عام بعد ولادتها مباشرة.

أبقار كثر قد وُهِنت عزيمتها ونفسيتها بلا رحمة وتنتظر من يحقق لها أمنيتها بالعيش الكريم

لكن حين اقتربت منها لم يقل لي أنها قطعة متخشبة في جدار لا بهيمة من لحم ودم، وأن المجاعة قد بلغت مبلغها في جسدها الهزيل.

ولتفهموا حالها عن قرب دعوني أقول أمراً، أتعرفون شكل البسكويتة المحترقة المغمسة بالحليب، مع بقاء القشطة المتخثرة أعلى البسكويتة منتهية الصلاحية وقد تم وضعها أسفل صندوق قديم أرضيته لزقة بالزيت والسكّر المذاب في مكان غني بالرطوبة، ثم تخيلوا أن يأتي عامل توصيل الطلبات يحمل الصندوق بلا اكتراث فيسقط منه في ريغار من ريغارات بلادنا فيسارع كي لا يُطرد من وظيفته ليستخرج البسكويتة، يمسحها من الأوساخ بكم قميصه المتسخ أيضاً وينقلها إليك فيجدك صائماً ستة عشرة ساعة بانتظار بسكويتتك، فتُصدم نفسيتك من رؤيتها فتحرك لسانك المشلول من هول الصدمة بلا شعور في تدنيس تاريخ صانع البسكويت.

شعوري حين رأيت هذه البقرة المسكينة هو شعور ذاك الصائم حين رأى تلك البسكويتة. فأنا على يقين أنها لو عرفت طريق “شرطة الحيوانات” لجرت زاحفة لتقدم شكايتها لهم من هذا الجار ومن مؤسسة الأعلاف. فعيناها العمشاوتان المبيضّتان وعظام قفصها الصدري القابل للتشريح بدون سلخ وضرعها الناشف فوق أرضية زلقة بالزبل دفعتني لأشهق لحالها بلا وعي. لهذه الدهشة قال جاري مبرراً حالتها (لقد زارها ثلاثة أطباء من أمهر الأطباء البيطريين الذين لم يهاجروا بعد، وقالوا بصيغ مختلفة “أحضروا لها طبيباً أو تناولوها على الفطور”).

في بلادنا ليس فقط من يتحدث في السياسة أو الدين أو الجنس يوهن عزيمة الأمة، هناك أيضا “المؤسسة العامة للأعلاف” ينبغي أن تضاف إلى ثلاثي التابوهات المحرمة في بلادنا. فهنا مثل بقرة جاري أبقار كثر قد وُهِنت عزيمتها ونفسيتها بلا رحمة وتنتظر من يحقق لها أمنيتها بالعيش الكريم. ففي الريف اليوم هناك بقرة واحدة من بين عشرة أبقار تحصل على مستحقاتها من العلف، بينما التسعة المتبقيات يعشن على الدعاء بأن ترأف بحقهنّ الحكومة فتخفّض سعر العلف وعلى صلاة الاستسقاء لنزول المطر.

اقرأ أيضاً: سوريا.. الأبقار المرفهة تأكل التفاح عوضاً عن العلف!

زر الذهاب إلى الأعلى