الرئيسيةرأي وتحليل

الطائفية السياسية والمجتمع الأعمى – ناجي سعيد

حُلم الإنسان في وطننا التوازن بين العقل والقلب..كي نبني وطنًا لا يعرج على جهة واحدة

سناك سوري – ناجي سعيد

تضمّنت إحدى الحلقات الإذاعية من برنامج كان يؤلّفه ويقدّمه الفنان زياد الرحباني، (العقل زينة) ما يلي: «اللي بيضربك كفّ ما فيك تردّ عليه ببيان بالجريدة، ما هوّ أصلاً ضربك عشانو ما بيقرا الجريدة.. نزال عالشارع وضربه كف»..

فنّانٌ ذو تجربة طويلة في قراءة وتحليل المجتمع، وهذا واضح من خلال محتوى مسرحياته وكلمات أغانيه. هذا بغضّ النظر عن مستوى الإبداع الفنّي في أعماله. لكن المشكلة التي تواجهني هنا، عند مقارنة نتاجه الفنّي ومواقفه التي نستخلصُها من مضمون الحلقات الإذاعية التي يقدّمها، التناقض الكبير الذي يقدّمه مبدع من المفترض أن يحافظ على المستوى الإنساني والحقوقي لمضمون أعماله الفنيّة. فما تعلّمته حين كنت طالبًا في الجامعة اللبنانية- معهد الفنون الجميلة، أن الفن يحمل رسالة إنسانية سامية، وهذا ينطبق على كافة أقسام الفنون وليس فقط حصرًا باختصاصي في قسم الرسم والتصوير. فالفن بشكل عام رسالته سامية وإنسانية، وقد لا ينتبه عامة الناس بأن الأثر النبيل الذي يهدف له الفنّان من خلال رسالته الفنيّة قد يتحوّل إلى نتيجةٍ سلبية.
هذا ليس تعميماً، لكن من الملاحظ أن تقليد شخصيات عدّة من أبطال مسرحيات زياد الرحباني تتخطّى موضة التقليد للتعبير عن الإعجاب، بل تفشّت في فترة الثمانينات والتسعينات لتصبح “ظاهرة”، قد عانى المجتمع من تفشّيها كظاهرة تنعكس تربويًّا على الجيل الصاعد. تحمل مواقفًا وقيمًا سلبية، ولا تعود بالنفع على المجتمع الذي يعاني أمراضًا نفسية وإجتماعية، ولكي أحافظ على المسار العلمي لحديثي عن مفهوم “الظاهرة”، بحثت عن بعض التعريفات التي أوردها علماء الإجتماع وقد اخترتُ العالم “إميل دوركايم” الذي يقول:«خصائص الظاهرة الاجتماعية موضوعية وليست من صنع الفرد بل إنّه يتلقاها من المجتمع الذي نشأ به، كما أنّها إنسانية تنشأ مع نشأة المجتمع وظهوره وهو ما يميزها عن العلوم الأخرى كالرياضيات مثلاً، وقوتها تتجلى في أنّها تفرض ذاتها على الفرد في المجتمع دون أن يشعر بذلك،وهناك نوعين أساسيين من الظواهر الاجتماعية، وهي الظواهر السليمة والتي تنتشر في المجتمع بأكمله بالشكل الذي يجب أن تكون عليه كما ترتبط بالشروط الاجتماعية الحقيقية، أمّا النوع الثاني فهو الظاهرة الاجتماعية المعتلة والتي يكون انتشارها واستمرارها بالمجتمع بحكم العادة العمياء كما أنّها لا توجد بالصورة الصحيحة التي يجب أن تكون عليها».

وما لفتني هنا في قراءة موضوع الظاهرة، بأن تقسيم المفهوم إلى نوعين، مرتبط أصلاً بمستوى فردي ينعكس من خلال استخدام الفرد لملكات عقله بالتفكير وأدواته، فمهارة التفكير النقدي تمنع حدوث الظاهرة تلقائياً، والتي أورد العلماء بأنها أي الظاهرة تبعيّة لاواعية تكرّس تقليد يوهمنا بأن الوعي الجماعي فرضه بطريقة عاقلة. لا بل يعلن المجتمع من خلال إتّباع هذا التقليد صوابيته وصحّته، وكأنّ المجتمع معصوم عن الخطأ وهو يفقه بتأسيس تقاليد واعية وقد تكون منظّمة ومرتّبة في أغلب الأحيان. والسؤال الصادم هنا “للأخ” إميل دوركايم:

ماذا لو كان مُعتصماً مع مجموعة محتجين في خيمة من خيم ساحة الشهداء في بيروت، وهاجمه مجموعة من الشبّان وهدّموا الخيم فوق الرؤوس؟ ولا أود نعت المُهاجمين بأي صفة تجعلني منحاز لفئة ضد أخرى، بإعتبار أن حقوق الناس متساوية بالعيش الكريم. هل كان من المُمكن أن يضيف دوركايم على بحثه الإجتماعي بُعدًا دينيًّا؟ أم طائفيًّا؟.

اقرأ أيضاً الديمقراطية في العمل السياسي – ناجي سعيد

فالبعد الطائفي في لبنان، ليس بُعداً دينيًّا، بل سياسيا. وكل قارئ لتاريخ لبنان يعلم جيّدًا أن الطوائف ليست كما هي في باقي العالم، عبارة عن فرق دينية، بل هي مجموعات وأحزاب سياسية إرتدت عباءة الدين لتستقطب أفراداً ينتمون غالباً إلى فئة من المجتمع لا تستخدم ملكة التفكير النقدي. أي الفئة التي يُمكننا القول عنها بأنها ظاهرة “لاواعية”. لا بل يقود سلوكَها في اغلب الأحيان حقدٌ، يُصاب بالعمى حين تَرِد على مُخيّلته مجرّد فكرة التعرّض للمقامات الدينية التي نُجلّ ونحترم.
وفي عودٍ على بدء، كيف يمكن لفنّان واعٍ وواسع الثقافة، أن يعلن موقفًا يعتمد على قاعدة “حمورابي” من العصور المُظلمة: “العين بالعين والسنّ بالسنّ”..وهذا دليل واضح يجعلني أجزم غلبة المُجتمع وثقافته الشعبية الجماهيرية، على الإرث الديني، الذي أرسل الله الأنبياءَ لبثّ ثقافة المحبة والتسامح!. والأدهى من ذلك، أن “فريق” المجتمع المُؤذي العنيف للآخرين، كان يُهاجم صارخاً صرخة تدلّ بوضوح على هويّة دينية!

بالعودة للعلم فإنه وفق المنهج الظاهراتي حسب “هوسرل” وجب الكشف عن «الأحوال النموذجيّة للوجود المعطى، أو ظهور الموضوع : الموضوع كما يُدرك، والموضوع كما يُتخيّل، والموضوع كما يُراد، والموضوع كما يُحكم عليه».

وتبقى الغلبة في المجتمع للمواضيع السهلة الإنتشار، أي كما تُتخيّل، أو تُراد أو يُحكم عليها، طالما تبعد هذه الإحتمالات عن الإدراك والتفكير.ويبقى حُلم الإنسان في وطننا التوازن بين العقل والقلب..كي نبني وطنًا لا يعرج على جهة واحدة.

اقرأ أيضاً مواجهة المجتمع… البيئة لا تفرض علي “لباسي” – ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى