الرئيسيةتقارير

سوريا – سنغافورة: مقارنة لا تعترف بالخوف

حين تُقارن سوريا بسنغافورة... سؤال مريب أم حق مشروع؟

تسير سائحة كندية مع صديقها وحدهما بعد منتصف الليل بشوارع سنغافورة دون أن يلتفتا خلفهما. لا أحد يلاحقهما بنظراته، ولا شرطي يوقفهما ليسألهما “ماهي العلاقة التي تجمعكما؟”. ولا سيارة تختطفهما ولا فدية تدفع ليخرجا. في حين أنهما يستمعان طوال رحلتهما لأصوات الموسيقى التي تخرج من البارات والنوادي الليلية التي لا يدخلها مسلحون ولا يخرج منها الزبائن هاربون.

سناك سوري – دمشق

هذه الحقيقة التي يجب أن نعرفها عن سنغافورة التي تطمح السلطات السورية أن تكون سوريا مثلها حسب ماعبر وزير الخارجية أسعد الشيباني الذي يعد الرجل الثاني في البلاد حالياً بعد الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع.

سوريا التي تمر كل يوم بمطب كبير على طريق سنغافورة المنشودة وتحاول السلطات أن تتعامل معه بأشكال تبدو كثيراً صورية من إغلاق البارات في دمشق إلى مداهمة نادي ليالي الشرق في العاصمة إلى اعتقال وضرب شبان لأنهم يمشون مع فتيات لا تربطهم بهن علاقة زواج كما حدث مع الشاب عبد الرحمن كحيل مؤخراً. وصولاً إلى انعدام الأمان في بعض المحافظات وارتفاع منسوب العنف بشكل رهيب وفلتان وانتشار السلاح العشوائي بعد مضي 6 أشهر على بدء العهد الجديد في سوريا.

وفق مؤشر السلام العالمي 2024، تحتل سنغافورة المرتبة الخامسة عالميًا، والأولى في الأمن المجتمعي. وقد سجلت 4 جرائم قتل فقط في عام 2023 بأكمله.

من هذا التباين الصارخ يبدأ السؤال: هل يمكن لسوريا، بكل ما شهدته من حرب وقمع وتشظي، أن تسلك يومًا طريق سنغافورة؟ وهل الأمان الذي يتغنى به السوريون كأثرٍ من الماضي يمكن أن يكون مستقبلًا؟.

سنغافورة: دولة تُبنى بالأمان لا بالخوف

لم تكن سنغافورة مدينة فاضلة. قبل استقلالها عام 1965، كانت بؤرة صراع طبقي وعرقي، تعاني من بطالة وانفلات أمني وتدخلات أجنبية. لكنها وضعت خطة واضحة: جهاز شرطة مدرب لا يعرف الفساد، وقوانين صارمة تطبق على الجميع دون تمييز.(يعني لا تطبق على المواطنين بشكل انتقائي ولا حسب مزاج العنصر أو المسؤول أو القاضي).

وفق مؤشر السلام العالمي 2024، تحتل سنغافورة المرتبة الخامسة عالميًا، والأولى في الأمن المجتمعي. وقد سجلت 4 جرائم قتل فقط في عام 2023 بأكمله.

وقد نجحت سنغافورة بالوصول لهذه المرحلة لأن العدالة هناك ليست شعارًا، بل مؤسسة تمشي بجوار المواطن، لا تلاحقه.

في سنغافورة التي علينا أن نضرب المثل بها كونها الطموح وليس بحقبة نظام الأسد لأنها تمثل عهد الاستبداد ومزبلة التاريخ!. وبما أن سنغافورة مضرب المثل فإن النوادي تعتبر جزءاً من قطاع السياحة الفاخرة، وتُدرّ أرباحاً كبيرة من السياح، وهي منظمة ومحمية من السلطات ولا يوجد في سنغافورة مسلحين يمكنهم الهجوم على شجرة فكيف بالهجوم على أماكن ومكونات ومجتمع.

تشكل السياحة رافعة اقتصادية رئيسية لسنغافورة، وفي عام 2024، بلغت مساهمة قطاع ، السفر والسياحة في الاقتصاد السنغافوري حوالي 25 مليار دولار وقد استقبلت البلاد 16.5 مليون زائر عام 2024، ما وفر أكثر من نصف مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة.

في النوادي الليلية السنغافورية يوجد كحول وأشياء أخرى مثل باقي النوادي الليلية في العالم كتركيا والإمارات، وقد عملت الحكومة هناك على تشجيع ما تسميه بالسهر المسؤول والحد من السكر العام. وهي تحظى بدعم المحافظين في هذا التوجه لكن أحداً لم يتعرض لنادٍ ليلي بالأذى.

يوجد 4 دول في العالم الإسلامي لايوجد فيها نوادٍ ليلية أبرزها أفغانستان وإيران، وهما نظامان سياسيان قائمان على التطرف والتشدد. بينما توجد نوادٍ في تركيا، السعودية، الإمارات، المغرب، إندونيسيا..إلخ. وفي سوريا أيضاً توجد نوادٍ ليلية قانونية ومرخصة ولم يطرأ أي تغيير على وضعها القانوني حالياً، لكن فقط أصبحت بيئة غير آمنة وتعرضت لنكسة تؤثر حتى على استقطاب السياح.

وجهات السياحة في سنغافورة المنشودة

لكن النوادي الليلية ليست وجهة السياحة الوحيدة في سنغافورة، وإنما الفنادق والشواطئ والجزر والحفلات الموسيقية والمطاعم والنظام العمراني الحديث ..إلخ كلها موجهات سياحية في سنغافورة التي تتمتع بنظام أمني متقدم جداً لحماية المواطنين/ات والسياح وكذلك لعوامل جذب تبدأ من الوجوه المبتسمة وصولاً للنظام والخدمات وغيرهما.

بالمقابل تتمتع سوريا بمقومات سياحية متقدمة جداً على سنغافورة لأنها تمتلك المشهد الطبيعي والشواطئ الجميلة، بالإضافة للعراقة والتاريخ والمعالم الأثرية التي تنتشر في عموم البلاد ما يجعلها بيئة خصبة للسياحة والتي تعد من أهم مصادر الدخل المحتملة في سوريا في ظل الظروف الحالية للبلاد وتدهور الصناعة وتراجع الزراعة بشكل لافت.

إلا أن السياحة في سوريا تفتقد لبيئة جاذبة للسياحة بمقابل توفر عوامل طاردة للسياحة، حيث يعد العامل الأمني في سوريا أول عنصر يمنع السياح أن يقصدو البلاد لزيارتها، فكل تحليلات شخصية السائح تشير إلى أنه يتجنب زيارة أي دولة فيها خطر أمني حقيقي باستثناء سياح المخاطر وهؤلاء حالة مختلفة ولا يشكلون نسبة تذكر من معدلات السياح عالمياً.

كما يعد التنوع الثقافي واحداً من عوامل الجذب السياحي وهذا التنوع الثقافي في سوريا يعاني حالياً من مخاطر حقيقية نتيجة التحريض على المكونات والانتهاكات التي تمارس بحق بعض هذه المكونات خلال الأشهر الماضية.

بالإضافة لذلك يعد التدخل في حياة الناس من العوامل الطاردة للسياح وهذا التدخل عندما يبدأ على السكان يصل صداه للسياح الذين يتجنبون زيارة هذا البلد.

طبعاً هذه عوامل لها علاقة بالإجراءات التي يمكن للسلطات أن تتخذها لتغييرها بشكل مباشر ولا يتطلب الكثير من الموازنات والصرف، بينما هناك عوامل أخرى لها علاقة بالبنى التحتية والخدمات وغيرها من أمور تحتاج لخطط وجهد على المدى الطويل إضافة للترويج والجذب السياحي.

لكن بالمحصلة رغم ضعف الخدمات تبقى سوريا وجهة سياحية مفترضة لاكتشاف ماذا حدث بها خلال سنوات الصراع وحتى يمكن أن تكون وجهة للباحثين والمتعلمين والراغبين بدراسة نتائج الصراع على الأرض وهذا كله يرتبط أساساً بعامل الأمن والحريات الشخصية وحرية الحركة.

سوريا: دولة تعتبر نفسها آمنة… من مواطنيها

في سوريا تاريخياً كان الأمن يعني السلطة، لا الأمان. الكلمة المفتاحية ليست “الأمن المجتمعي” بل “الأمن السياسي”. تُمارس السلطة وصايتها على تفاصيل الحياة اليومية: اللباس، السلوك، العلاقات، والموسيقى. النظام لا يواجه الفساد، بل يصنعه، ويُوظّف أجهزته الأمنية كأداة تأديب اجتماعي، لا كأداة عدالة.

وهذا فارق كبير عن سنغافورة الحلم، والتي يقوم الأمن فيها على أساس الخدمة لا القمع، فتمتلك سنغافورة شرطة مدربة لا تدخل بما لايعنيها وتحمي مواطنيها أيضاً من أي تدخلات لا تعني من يتدخلون فيها. وهي تفصل تماماً بين الدين والسياحة.

فلسفة سنغافورة: حين يكون الأمن ابنًا للعدالة لا وصيًا عليها

سنغافورة لم تبنِ أمنها على القمع، بل على القواعد. لم تعتمد على استعراض القوة، بل على الثقة المتبادلة بين المواطن والدولة. فلسفتها بسيطة لكنها جذرية: لا يحق للدولة أن تراقب الناس طالما لم يخالفوا القانون، ولا يحق للمجتمع أن يفرض وصايته على أحد.

في سنغافورة، يُمنح الشرطي سلطة واسعة، لكن يُراقب بدقة؛ يُمنح المواطن هامشًا واسعًا من الحرية، لكن يُساءل إن تجاوز القانون. الدين موجود، والهوية موجودة، والتقاليد محفوظة، لكنها لا تُستخدم كأداة ضبط، بل كجزء من الفسيفساء الوطنية.

هي دولة مضبوطة بالإدارة والانضباط، لا بالفوضى. الدولة لا تساوي بين الجميع فقط، بل تتدخل لحماية هذا التساوي حين يتعرض للانتهاك.

فلسفة سنغافورة تقوم على معادلة دقيقة: لا أمن بلا كرامة، ولا كرامة بلا قانون، ولا قانون بلا ثقة.

في المقابل، الأنظمة التي تُقايض شعوبها بين الأمن والحرية، تفقد الإثنين. وسوريا، إن أرادت أن تسلك طريقًا شبيهًا، فعليها أن تبدأ من حيث بدأت سنغافورة: الاعتراف بأن المواطن ليس مشكلة يجب ضبطها، بل شريك يجب تمكينه.

لا يمكن نسخ تجربة سنغافورة على سوريا كما هي، لكن يمكن الاستلهام منها. يمكن أن تبني سوريا نموذجها الخاص، حيث الأمان لا يُقاس بعدد الحواجز الأمنية، بل بعدد الذين يعودون إلى بيوتهم ليلاً دون أن يعتقلهم أحد.

سنغافورة تذكّرنا أن الخوف لا يصنع دولاً، بل سجونًا موسّعة. أما الأمان، فهو حصيلة عدالة حقيقية، لا مجرد صمت مفروض بالقوة.

زر الذهاب إلى الأعلى