الرئيسيةيوميات مواطن

نصائح زراعية شعبية: حين تجعلنا الحرب خبراء زراعيين

اجتمع أهالي القرية فخربوها.. هذا ماحل بابني الذي لا يسمع النصيحة

كل ما في هذا اليوم محبط، مقيت، ويثير الإكتئاب، فالجو قائظ والأرض على غير العادة من كل عام، قاسية، ناشفة وكل شيء بها قد عراه الذبول. لكن ما زاد حالي سوءاً في هذا اليوم هم العابرون أصحاب النصائح الزراعية الشعبية

سناك سوري – شاهر جوهر

ففي بداية هذا اليوم الباهت مرّت “مريم”، صرخت بإسمي من بعيد فأشحت بوجهي متظاهراً بعدم الانتباه لها، لأنّي أعرف أنها ممّن لا يترك نهايات سائبة في أي حديث. لكنّها اقتربت أكثر وبعصبية زعقت بأذني تتسائل سبب تجاهلي لها، وعبثاً كانت محاولاتي لتبرير موقفي، إذ لم يقنعها قولي أني كنت منشغلاً في زراعة غرستي.
امتصصت غضبها عندما حوّلتُ الحديث إليها وسألتها عن عائلتها، فكانت سيدة الحديث بلا منازع، إذ تحدثت مطولاً عن حالتها في النزوح، عن زوجها بلا عمل، وعن حال إبنها بعد إغلاق مدرسته بفعل الحرب.
ثم سكتت قليلاً وسألت بفضول:
– ماذا تريد أن تصنع بهذه الحفرة ..أتريد أن تزرعها…؟ ممم عرفت الآن لما السنة ممحلة ولما تأخر نزول المطر هذا العام ..لأنّك قررت أن تصبح مزارعاً يا وجه النحس … وماذا تريد أن تزرع..؟
أجبت بابتسامة زائفة:
– توت
– توت!! يبدو أن الحرب أثرت بك فعلاً… يا غبي أرضك منخفضة ورطبة في الصيف لذا ازرعها رمان..اسمع النصائح الزراعية من أختك مريم..

اقرأ أيضاً : “ديار” جندي عاشق “انشق” من أجل خطبة “عائشة”

بعدها بدقائق وقبل أن أزفر مللي من حديثها نط أمامي (رزق) بحركة مفاجئة و باهتة ليخيفني ممازحاً ، فبانت قامته المدعولة أمامي كمسمار صدء حتى دفعت معدتي للدوار ، أمّا زوجته وبالقرب منه فضحكت لحركته تلك ضحكاً خرج من خياشيمها ، ولفرط ضحكها أمسكت خاصرتها بيدها.
أمّا أنا فلا أقدر إلّا أن أضحك مجاراةً لهما وفي نفسي كنت أتمتم “قدِرٌ ووجدت غطاءها” اذ هما مدرسان وزوجان شعبيتهما في قريتي صفر. جلسوا بالقرب من غرستي ثم غرسوا أنوفهم بأذناي ولم يبقوا أحداً في القرية إلّا وتناولوه بسوء.
وعندما لم يجدوا مايشركوني به من حديث سألني “رزق” عما أنوي زراعته في هذه الحفرة.
وعندما قلت ( توت ورمان) إنتفض أمامي قائلاً:
– سامحك الله أسمع مني وازرع تين، إنه يحتمل العطش و الطلب عليه يزداد كل يوم.
ثم أخذ يشرح لي بعشوائية بعيدة عن سياق الموضوع عن ضرورة مرونة الموارد الاقتصادية وقدرتها على التكيف، بالإضافة إلى قوانين السوق وآلياته في العرض والطلب، حتى اعتقدت في سري أنّه من رواد المدرسة الكلاسيكية في التجارة الدولية.

اقرأ أيضاً : حين أصبح “الفقر” رجلاً لجأ إلى ألمانيا!

أمّا زوجته فكان لها رأي آخر، وقفت ورددت مقاطعة بعد أن أسندت خاصرتها بيدها:
– تين.!! أيزرعه للدبابير والغربان؟ ازرع (جوز)، سعر الكيلو لا يقل عن ألفي ليرة صدقني ستكسب.
وكأنّ جدالنا وجلستنا تلك كان ينقصها “دوجان” عجوز في الثمانين لكنّه لازال يحتفظ بقوته وسلاطة لسانه، قدم إلينا فجأة وقد كوّر يداه خلف ظهرٍ منحني، جلس وأخذ يحدثنا بكسل وبتفاصيل مملة كيف ذهب إلى بيته في هضبة الجولان وزرع مئة غرسة زيتون وسقاها في غضون ساعات ورجع دون أن يلاحظه أحد طرفي الصراع ويقتله .

كل واحد منّا يعلم في سرّه أنّ هذا العجوز يبالغ في حديثه، لكنّنا أضعف من ألّا ننبهر بإنجازاته وإلّا كنّا وجبة سهلة لفمه الذي لا يعرف سوى طعم الشتيمة.
وخلال ساعة ويزيد من الحديث المتواصل عن يومياته أدار رأسه إليّ ثمَ سألني:
– لما هذا الفأس أتريد أن تزرع شيئاً؟
أجبت بتململ:
– إن شاء الله
– ولما لا يشاء الله، فالله بارك بالزراعة.
– أقصد إن لم يمتني الله سأزرع.
– ولما يميتك الله فأنا أعرف أنّك ممن لم يحملوا السلاح ؟
– أقصد إن لم يصبني احتشاء في القلب أو يتخثر دمي أو لم يسقط عليّ برميل متفجر فجأة سأزرع.
– طيب وإن لم يصبك احتشاء في القلب أو يتخثر دمك أو لم يسقط عليكّ برميل متفجر فجأة ..ماذا تريد أن تزرع؟
قلت بحنق:

اقرأ أيضاً: مسؤول تركي: لولا المزارعين السوريين ستنتهي الزراعة لدينا

– توت ورمان وتين وجوز..
نظر إليّ وقد زمّ شفتيه باستغراب ثم قال:
– يا ولد أبكَ خَبَل؟..هل أنت أدرى من ربنا.. جاوبني؟
– أعوذ بالله..
– إذاً أطبق فمك وازرع زيتون ..لأنّ ربنا أقسم “بالزيتون”..
ثم أخذ يعدد فوائد الزيتون بطريقة مملة. وبحركة مفاجئة حدث جدال حاد بين الأطراف الأربعة وكل طرف تحوّل إلى مدافع صلب عن نظريته. أمّا أنا فقد أسندت حنكي بجمع كفي ورحت أنظر إلى أشداقهم المتطاير منها التّفْل، إلى أن جاءت أمي تترنح من بعيد شامخة كشجرة سنديان ، وما إن تربعت بيننا حتى سألت:
– لما لم تزرع شجيرات المشمش حتى الآن ؟
اعتصمت بالصمت، ثم زحفت بالقرب منهم وردمت حفرتي بيداي، ثم أسدلت فأسي على كتفي ومضيت مبتعداً.

اتسعت فرجتي عينيها ثم سألت أمي باستغراب:
– ما به؟ هل أغضبتموه بأمر؟
سأل “دوجان” مستغرباً مثل حالها:
– هل أغضبتموه يا جماعة..؟
فهزّ الحاضرون رؤوسهم دليل النفي، ثم أكمل دوجان:
– كل ما في الأمر أنّنا أسدينا إليه بعض النصائح الزراعية بطريقتنا الشعبية…
انبسطت عينا أمي باستطالة صغيرة ثم قالت باعتذار:
– آسفة يا جماعة أنا أعرف ابني فهو لا يحب النصائح لا الزراعية ولا الشعبية ولا غيرها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى