الموت اقتصاداً – أيهم محمود
كيف يستعد أثرياء العالم لحدوث اضطرابات اجتماعية مدمرة؟
حين نقرر تصدير زيت الزيتون كمثال، إلى أين يذهب دولار التصدير؟، الكتلة الأكبر من دولار التصدير تنتهي في جيب من؟ هنا عقدة السؤال.
سناك سوري-أيهم محمود
تحتاج طبقات المجتمع التي لا ترغب في مشاركة بقية السوريين في حصارهم إلى الدولار لتجاوز تأثيرات العقوبات المفروضة على سوريا، لا يمكنهم المحافظة على مستوى حياتهم السابق دون وجود الدولار من أجل شراء احتياجاتهم بدءاً من مواد البناء وصولاً إلى سياراتهم وعطوراتهم، فنحن لا نصنع الكثير من المنتجات وهي في كافة الاحوال لا تناسب مستواهم الاجتماعي، فمن إعتاد على البضائع الأمريكية والأوروبية لن يتوجه حتى شرقاً من أجل شرائها، فكيف لو طالبناه بشراء بضاعة محلية!.
حين نُصدّر كيلو غرام من الزيت إلى الخارج، ويقبض التاجر الذي صدره المال بالدولار، هل يعطي الفلاح نصيبه من دولار التصدير؟ أم يتم تعيير هذا الفلاح بلقمة الخبز الذي يأكلها باعتبارها تستنزف دولارات الوطن، في الوقت ذاته تم تجميد عشرات مليارات الدولارات في مصارف لبنان وحدها دون أن يتم اعتبار هذا الأمر استنزافاً لدولارات الوطن.
هل الفلاح وحده هو المنتج؟
هل يجب أن يتقاسم دولار التصدير التاجر والفلاح والدولة التي ترعاهما معاً؟، ماذا عن مالك الجرار الزراعي الذي قام بفلاحة الأرض لمزارع الزيتون ويرغب أيضاً في شراء قطع الغيار لجراره؟، ماذا عن مالكي وسائط النقل الذين نقلوا المزارع لشراء حاجاته وأدواته؟، كل هؤلاء وغيرهم ساهموا في العملية الإنتاجية بشكل أو بآخر، ولهم نسبتهم المستحقة من دولار التصدير لكي يستطيعوا الاستمرار في تقديم خدماتهم، العملية الانتاجية سلسلة متتابعة مترابطة تحتاج الكثير من الأدوات التي علينا أن نصنعها أو نستوردها، تصنيعها غِنى وكرامة بالتأكيد، لكن إن لم تتوفر هذه الكرامة لنا الآن لابد من استيرادها، عندما نريد استيراد أدوات الانتاج لا نرى دولارات! لماذا؟.
اقرأ أيضاً: كيف نصنع مأساتنا بأنفسنا – أيهم محمود
لأن من باع المنتجات السورية الشحيحة التي يمكن تصريفها الآن أرسل قسماً منها إلى أولاده في دبي أو أوروبا، أو بنى بواسطتها بناء سكني لا يفيد الاقتصاد السوري عملياً بأي شيء، أو بنى فيه مشروع سياحي لا يقدم ولا يؤخر في عجلة الانتاج المتوقفة أو التي تكاد تتوقف كلياً بعد استهلاك معظم أدوات الإنتاج دون إمكانية تجديدها، الدولارات الشحيحة التي يجب أن تعود لخدمة العملية الإنتاجية تم تكديسها في مشاريع غير منتجة عملياً، بل هي أداة لجمع المزيد من العملة السورية من أجل شراء المزيد من الدولارات في السوق السوداء، وهو ما يخلق ضغوط هائلة على سعر الصرف ويجعلها تحلق عالياً، لذلك تسير شرائح جديدة من الصامدين إنتاجياً نحو الإفلاس، والإغلاق، والموت الاقتصادي المؤكد السابق للموت الفعلي.
الدولار وغيره من العملات العالمية هو وسيلة إخراج خيرات البلاد وتكديسها في بنوك العالم، لا توجد بنوك تستطيع سرقة الزيتون السوري وتكديسه في خزائنها، لكن يمكن تحويلها إلى دولار وتخزين قيمة الزيتون بسهولة كأوراق، الأوراق المالية تعادل أطنان الزيت، وأطنان الفوسفات، وأطنان النفط، وأطنان القطن، وغيرها من المنتجات والموارد الطبيعية التي خرجت من سوريا قبل أن تجد طريقها بعد عدة دورات إقتصادية إلى مصارف لبنان، ومصارف سويسرا، ومصارف الولايات المتحدة، وغيرها من مصارف العالم، عندما يتم تعيير أي سوري بلقمة خبزه، أو بقطع غيار أدوات انتاجه، أو بحاجته إلى الكهرباء وغيرها من خدمات البنية التحتية، عليه أن يطالب خطياً ورسمياً بحصته من دولار التصدير، الذي تم انتزاعه منه دون أن يتم في المقابل تأمين الخدمات اللازمة لاستمراره في عمله.
تعود في النظام الاشتراكي الدولارات إلى الدولة وبالتالي إلى الناس، إلى الشعب مهما كانت قيمة الهدر الناجم عن تعقيد الآليات البيروقراطية. يأكل السوريون اليوم من القليل الذي يمكن بيعه من بضائعهم إلى الخارج، يأكلون من عرق وتعب أولادهم الذين أصبحوا في منافي الأرض وهم يرسلون التحويلات المالية لأهلهم بعد اقتطاع جزءٍ منها بفعل فارق سعر الصرف، أي أن جزءاً مهماً من الناس يعيشون بفضل هؤلاء أيضاً، من المعيب أن نقول لهم أن لقمة خبزهم كفاف يومهم تكلفنا يومياً هذا المبلغ، لأن نسبة مهمة من سعر تكلفة الرغيف قد تم قبضها مسبقاً عبر تحويلات السوريين أنفسهم، الحالة الطبيعية هي أن يأكل الأهل من خير أبنائهم في الخارج، أما الحالة غير الطبيعية هو وصول هذه الدولارت إلى جيوب من يريد شراء العطور الباريسية، والرخام الإيطالي، والتجهيزات الصحية الألمانية لإكساء المنازل الفخمة والمنشآت السياحية، لا أعلم كيف نستطيع بسهولة تجديد شطافة مؤخرات ألمانية الصنع مركبة في أحد المنشآت السياحية في الوقت نفسه الذي تعجز فيه الورش الصناعية الصغيرة ومقدموا الخدمات العامة عن تجديد أدوات انتاجهم بسبب غلاء الدولار وعجزهم عن توفير المال اللازم لهذه العملية.
شكى صاحب السرفيس للركاب وجعه عندما تحدث أحدهم عن الأجرة، قال لقد زادت أسعار قطع الغيار عدة أضعاف بعد إقرار التسعيرة، القضية ليست قضية وقود فقط، نعم نحن نبيع جزء من المازوت ولن نتمكن من الاستمرار، لا يوجد زمن مقبول يستطيع فيه مالك وسائط النقل العامة تجديد آليته إن اهترأت وأصبحت خارج الخدمة، ليس هذا حال مالكي وسائط النقل فقط، بل هو حال المداجن، والمزارع، والورش الصناعية الصغيرة والمتوسطة، بل حال حتى بعض المعامل الكبيرة، الجميع يأكل عملياً من رأس المال عبر استهلاك أدوات الانتاج دون إمكانية تجديدها، نحن في الواقع نقوم بتسييل أدوات الإنتاج وتحويلها إلى دولارات تذهب باتجاه تراكمها في أبنية فاخرة لا لزوم لها، أو وضعها في منشآت سياحية خاصة وهو خيار أكثر سوءاً لأنه يعني استنزافا أكبر للمخزون السوري من العملات العالمية، بسبب نوعية المواد التي تحتاجها هذه المنشآت لتشغيلها، وبسبب تشغيلها بالليرة السورية وشراء جزء من احتياجاتها بالدولار، نهاية هذا السلوك الخطر ليست سعيدة على الإطلاق.
يراهن البعض على أن زمن مقايضة المواقف السياسية بالمال يمكن أن يعود، لقد عاشت مصر وسوريا ولبنان، وربما الأردن في بعض فترات حياتها على هذه القاعدة الاقتصادية، لكن العالم يتغير بسرعة في غفلة منا، لن نستطيع الآن إعادة تطبيق هذه الوصفة القديمة جداً التي عرفتها سوريا الطبيعية عبر التاريخ، باعتبارها منطقة عبور للفيلة الضخمة المتصارعة فيما بينها، لا نحن سنستطيع فعل ذلك، ولا مصر، ولا غيرنا من الدول العربية والاقليمية التي اتبعت هذا الأسلوب سابقاً، هناك حل واحد فقط لا يوجد غيره في المدى المنظور، هو إعادة عمليات الانتاج الداخلية، الزراعية والصناعية، أي استثمار آخر هو مضيعة حتمية للوقت كما أثبتت وقائع السنوات العشر الماضية.
يجب أن ينتهي عصر المفاجأة والارتباك والأحلام المستحيلة الذي استمر مدة طويلة جداً، لنبدأ بشكل جدي وممنهج وواعي في الدخول إلى عصر بناء المجتمعات الاقتصادية القوية المدعمة التي تحتاج الاستثمار في التعليم ونشر التصنيع وزراعات الاكتفاء الذاتي على المستوى الصغير والمستوى المتناهي في الصغر، كل خليةٍ حية لا تنتج شيئاً هي عبء على الجسد ولو كانت تأكل الخبز الحاف فقط، عقلية السوريين التاريخية منذ أيام الغساسنة والمناذرة لم تعد تنفع في هذا العصر تحديداً، عصر قرب نضوب النفط، واضطرار كوكب الأرض للتخلص من فائض البشر عليه لكي تتوازن الحياة مرة أخرى، لكي تُفهم هذه العبارة الأخيرة بشكل جيد، يجب البحث عن الوسائل والدفاعات التي يُنشئها الآن بعض أهم أغنياء امريكا استعداداً لهذه اللحظة القادمة.
وهو ما تم تداوله في عدة مقالات بعضها موجود في أهم المواقع الاعلامية العالمية، لم يعد العالم مهتماً بالذين يدمرون بلدانهم بحروب داخلية، لأن هذه الحروب ستصل إليهم بفعل عوامل اقتصادية داخلية وليس بفعل العدوى، لذلك ستخفت حماستهم لإطفاء بؤر التوتر الخارجية تدريجياً، من يراقب تراجع الاهتمام بالمسألة السورية بعد اندلاع حرب أوكرانيا، يستطيع تخيل حالة العالم لو اندلعت عدة صراعات مماثلة في ذات الوقت، لن يذكرنا أحد حتى لو تمت عملية إزالتنا عن كل الخارطة العالمية، هذه الصورة الأخيرة ليست مبالغة مني على الإطلاق، بل واقع مؤلم علينا الاستعداد له جيداً.
بين السطور السابقة..، بقيةٌ للخاصة من القراء، من الذين يهتمون برؤية ما هو أبعد مما قلناه في هذه المقالة.
وفيما يلي (اضغط هنا) رابط فيديو نشرته DW على صفحتها في الفيسبوك عن استعدادات بعض أثرياء العالم لحدوث اضطرابات اجتماعية عالمية مدمرة.