الرئيسيةرأي وتحليل

الذكاء السوري المدمر – أيهم محمود

العملية نجحت نجاحاً باهراً لكن المريض للأسف الشديد قد مات!

أحد مشاكلنا الكبرى في سوريا هي اللغة ومفرداتها، هذه اللغة التي تحمل عناصر الوعي، وتحمل أيضاً في الآن ذاته عناصر تخدير الوعي العام. نستخدم في حياتنا اليومية مصطلحات قاتلة كثيرة لا يمكن حصرها في مقالة واحدة، ولا في عشراتٍ منها. أتحدث اليوم عن كلمة “الذكاء” فقط، كيف تحولت هذه الكلمة المهمة والجميلة من وصف الإبداع إلى مديح البلادة الذهنية ومديح الفساد. ومديح كل ما هو سيء، بدل أن تكون صفةً حميدة، صفة البشر الذين يبنون الماضي والحاضر والمستقبل.

سناك سوري-أيهم محمود

إن سرق شخص ما من المال العام ونجا بفعلته وصفناه بالذكي، إن قام شخص آخر في الفضاء العام -الاجتماعي والسياسي- بتعليم أمير ميكافيلي أصول المراوغة والخداع قلنا عنه أنه ذكي.

والمفارقة الجميلة تكمن في طريقة التعامل العام مع هؤلا، فمؤيديهم يقولون عنهم أنهم أذكياء “مدحاً”، و”طمعاً”، في النهل من حكمتهم. والسير على نهجهم، والتعلم منهم، أما معارضيهم فإنهم يعترفون بمرارة وحسرة بأن هؤلاء هم أذكياء، وهنا المفارقة القاتلة. بل كارثتنا السورية التي لا قاع لها، اعتراف الطرفين المشترك بهذا الذكاء اغتصابٌ تام الأركان للغة والوعي بالآن نفسه.

فالمعارض لهم لا يكتفي بتمني هذا الذكاء لذاته، بل يمضي إلى ما هو أبعد من تمنيه ومن حسده لهم ليشوه اللغة ذاتها. اللغة التي هي حامل الوعي والمعرفة من جيلٍ إلى جيل. حين نشوهها، نشوه ليس حاضرنا فقط، بل نشوه المستقبل أيضاً عبر تشريع وتبرير كل ما هو سيء، وكل ما هو قاتل. بدل تعريته وإدانته.

مقالات ذات صلة
اقرأ أيضاً: مأساة تلاميذنا حين يصدقون بعض ما يقرؤونه في المدرسة – أيهم محمود

يصبح الغبي في شرعهم مجتمعين هو من حافظ على أخلاقه العامة، وعلى صبره لسنوات طويلة. وعلى إيمانه أن الموت جوعاً وقهراً أقل مرارةً على النفس من تشويه مستقبل أولادنا، ومن تشويه لغتنا لتحمل معاني مدح الفساد والإجرام -وإن كنّا نستخدم هذه المفردات “المُحدَّثة” في غير محلها. وفي غير مواضعها التي أقرتها بدقةٍ لغتنا العربية-.

هذا الثابت على أخلاقه غبيٌ ومتخلف باتفاق الطرفين المتناقضين المتحاربين على فقه من يحق له ممارسة هذا الذكاء على الآخرين. ومن يجب أن يكون في موقع المُتَذاكى عليه، هو إذا تناقض “الأذكياء!” الذي علينا أن نشاهده، ونبرره أيضاً. بدل تعريته وإعادة اللغة إلى نقائها لكي نضمن على الأقل مستقبل أولادنا بعد أن أضعنا ماضينا وحاضرنا.

الذكي هو من يخدع ويراوغ ويناور ويسرق ويقتل الأمل في صدر من يستحق، الذكاء هي تلك البلاد العاطلة عن العمل وعن المستقبل. البلاد إلى أرسلت أولادها إلى كل بقاع الأرض وبقيت تنتظر معجزةً لن تأتي. البلاد التي لم يبقّ بها شجرٌ ولا غابات، فمن يقطع يدين من يحرق، ومن يحرق يدين من يقطع. البلاد الملأى بالأذكياء في كل مكان وفي كل زمان لكنها أصبحت دون وجه حقٍ في قعر كل تصنيفات العالم.

البلاد الذكية التي تشبه العبارة الساخرة “العملية نجحت نجاحاً باهراً لكن المريض للأسف الشديد قد مات”. هذا هو الذكاء السوري، وهذه هي نتائجه، حين يتفق الجميع على تشويه اللغة اليومية المحكية. دون أن يعذبهم ضمير، بل دون أن يوجد فيهم أي ضمير، وأي رادعٍ يؤخر زخم اندفاعهم عن فعل ذلك.

اقرأ أيضاً: الحرب التي لا يتحدث عنها أحد – أيهم محمود

 

زر الذهاب إلى الأعلى