الرئيسيةرأي وتحليل

مأساة تلاميذنا حين يصدقون بعض ما يقرؤونه في المدرسة – أيهم محمود

المفارقة المرّة في حكايتنا هنا أن الامبريالية ليست مرادفة لأمريكا أو لأي دولةٍ أخرى

لن يُدرك الجيل الجديد الذي اعتاد على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، حالة جيل والديه قبل ثلاثين أو أربعين عاماً فقط. لقد تغير العالم بشكلٍ مذهل، يوجد الآن الكثير من التضليل والأكاذيب العامة. لكن يوجد في المقابل فرصة رؤيةٍ مستقلة، إن رغب الإنسان بها وكان يملك الثقافة التي تدفعه للبحث بنفسه عن المعلومات. العالم كله بين أيدينا الآن، نستطيع أن نقرأ ما يكتبه أحد سكان مدينة نيويورك الأمريكية عن حدثٍ وقع بجانبه. بدل أن نسمعه بعد مروره في مصافي عدة وكالات إعلام عالمية، قبل أن يتم تصفيته بمصفاتنا الخاصة ذات الثقوب الضيقة.

سناك سوري-أيهم محمود

أذكر، وأنا من مواليد ١٩٧٠، مشاهدتي للتلفاز أول مرة في بداية سبعينيات القرن الماضي، وهو الإعلام الرسمي الوحيد المتاح لتفهم ما يجري حولك. إضافةً إلى بعض القنوات الإذاعية العالمية في الراديو، بعضَ الكتب، وبعض الإشاعات.

بدل الصفحات التي تديرها الآن مجموعات سياسية مختلفة لنشر الإشاعات، كانت الإشاعة في حديث الناس اليومي المقابل الرسمي للثرثرة الحالية في مملكة الفيسبوك. الفرق بين حالة اليوم وحالة الأمس، هو مقدار اليقين الذي كان يملكه الفرد مقابل مقدار الشك. تشكل النسبة بينهما مقداراً حرجاً يغير توجهات الإنسان، وقد تغير حياته كلياً إلى درجة تدميرها.

اقرأ أيضاً: سوريا الحالمة لا تميز بين غنيٍ وفقير – أيهم محمود

قرأت صباح اليوم منشوراً عن مجموعةٍ يساريةٍ عربية دفعت ثمناً فادحاً جداً لصدق ونقاء أعضائها. ولتصديقهم ما قرأوه في الكتب، ومنها ما كان يتم تدريسه داخلياً في سوريا، في تلك المرحلة حملت المدارس منهجين خطرين. أولهما يتعلق بالسياسة، والثاني بالدين، كلا المادتين تُدَرّسان للطلبة في سنٍ مبكرةٍ نسبياً. قبل أن تكتمل مَلَكَةُ الشك، ومَلَكَاتُ العقل الأخرى التي تلجم البعد العاطفي في الشخصية الإنسانية، ربما هذه الثنائية التدريسية الرمزية. هي ذات ثنائية الصراع الداخلي في مجتمعنا خلال رحلة البحث عن هويةٍ سوريةٍ، لم تتيسر لها الظروف المناسبة كي تتشكل وتتبلور. هل هي دينية، أم علمانية، هل هي يسارية، أم رأسمالية، وإن كنا قوميين. فما هي الحدود التي تقف عندها قوميتنا، في مقابل وجودٍ فاعلٍ للأممية الدينية والشيوعية، وكلاهما يملك تيارات قوية في مجتمعنا.

قصص النضال ضد الإمبريالية بوصفها الشيطان المسؤول عن بؤسنا تدفع الطلبة عبر بعدهم العاطفي إلى البحث عن مكانٍ للتعبير والنضج

قصص النضال ضد الإمبريالية بوصفها الشيطان المسؤول عن بؤسنا تدفع الطلبة عبر بعدهم العاطفي إلى البحث عن مكانٍ للتعبير والنضج. وهنا تجد التنظيمات اليسارية والدينية وقد قطفت جزءاً من الطاقات التي تعب المنهاج المدروس على تنشئتها لخدمة القوى المسيطرة في المجتمع لكنها ضلّت طريقها وذهبت إلى غيره. ربما هذا هو سبب الغضب الذي نراه في صراع الأطراف المختلفة على الاستحواذ على هذه الشريحة المستعدة للموت في سبيل معتقداتها. قبل أن يتطور الشك لديها ليتحول إلى أحد حالتين، القناعة العقلية الصارمة والتي هي أقوى من الإيمان في ثباتها، أو البحث عن اكتمال الهوية الفردية في مواضع أخرى.

المفارقة المرّة في حكايتنا هنا أن الامبريالية ليست مرادفة لأمريكا أو لأي دولةٍ أخرى، ولا هي مرادفة لمذهبٍ سياسيٍ ما، بل هي تعني فقط التوسع على حساب أراضي وخيرات الآخرين. تعني بالتحديد رغبة جماعةٍ ما في قضم ما ليس لها، ومع ذلك تم استخدام هذه الكلمة كمرادفٍ لاسم الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الشحن العاطفي دمر الكثير من خيرة شباب وطاقات المنطقة العربية. ومنها سوريا بالتأكيد، أرهق نخباً فكرية مميزة بالقتل والسجون لأنهم صدقوا ما يقوله الإعلام الشعبي، وصدقوا الإعلام الرسمي أيضاً. ومنه ما كان يتم تدريسه فعلاً في المناهج المدرسية.

اقرأ أيضاً: تهنئة قلبية صادقة للدب السوري في عيد ميلاد انقراضه – أيهم محمود

يوجد تناقضٌ واضح بين مفهوم الثورة الدائمة وبين مفهوم الدولة والاستقرار، من ظن من اليسار أن الاتحاد السوفييتي السابق يدعمهم انتهى إلى الدمار التام. لأنه عملياً دعم القوى المستقرة في المنطقة العربية، بل وسلم عشاقه إليهم ليفتكوا بهم، فهم خطر على منظومة استقراره في حال لو تسربت أفكارهم إلى داخله. هو عدوٌ بالضرورة لهم ولآلية حياتهم وأفكارهم، الثورة مفهوم توترٍ وفوضى، مثلما يحدث في ذرات الحديد عند تسخينه. والدولة منظومةُ استقرارٍ وتبريد، من الحماقة الاعتقاد بوجود دولةٍ ثورية، أو نظامٍ سياسيٍ مستقر ثوري، لأن هذه تنفي كلياً تلك.

لقد تحولت الأفكار الدينية والسياسية الثورية مع الزمن إلى مصيدة ذباب لجمع هذه الحشرات الضارة على المجتمع. إنها آلية جهنمية لدفع الكائنات البشرية التي تقع على أطراف منحني الجرس (منحني التوزع الطبيعي) إلى فخ الصيد للتخلص منها، وتحطيمها. في مراحلة عمرية مبكرة قبل أن تنتشر في المجتمعات البشرية، لم يكن هذا السلوك العام محلياً، بل عالمياً، بما فيها تلك الدول التي تصنيفها تحت اسم ثوريةٍ دينية أو سياسية.

وهذا ما شاهدناه في تنظيم القاعدة، ثم لاحقاً في تنظيم داعش، وقبلها في الدعوة إلى الجهاد في سوريا، ولم تكن هذه الدعوة إلا محرقةً لهؤلاء للتخلص منهم. كما حدث في مناطق أخرى في المنطقة وفي العالم، فهو سلوكٌ عام تقوم به المجتمعات البشرية لحذف القيم المتطرفة من منحنياتها الجرسية.

للأسف هذا السلوك الذي اعتبرته المجتمعات الإنسانية علاجاً ضرورياً لم يكن في الواقع إلا إخصاءاً حقيقياً لإمكاناتها ولاحتمالات تقدمها. نجحت بعض الدول في العالم في إقامة هدنةٍ مع هذه القيم المتطرفة، عبر تصريف طاقاتهم في الصخب والجنس، أو في منظومات اجتماعية أخرى تمنحهم بعض الهامش الجيد للحركة مما يخفف كثيراً من احتمالات الانفجار. كثيرٌ من المواد المتفجرة تحترق بأمان تام في الأماكن المفتوحة، ولا تشكل خطراً إلا إذا احترقت في مكانٍ ضيق ومحصورٍ وقاسي جداً.

الإبداع يحمل الشك والتمرد الدائم في جوهره، وهو عكس استقرار الدول، لكن لابد لأي دولةٍ تريد الاستمرار والبقاء على خارطة التاريخ أن تُبدع طرقاً في استخلاص طاقات هذه العناصر النادرة

المجتمعات التي لم تستطع الاستفادة من طاقة هذه النخب الاستثنائية، خسرت إمكاناتهم وطاقتهم، لذلك ذهبت محصلتهم العامة إلى الصفر. وبعضها دخل في طور التحلل والتلاشي، هؤلاء هم ثروة أي بلد، وهم قادته بعد أن يضعف البعد العاطفي لديهم ويتوازن مع البعد العقلاني، هؤلاء هم علماؤه المبدعين.

من ينتمي لمنطقة منتصف منحني الجرس يحفظ بشكلٍ جيد، بل ويبدو عبقرياً في حفظه وترديده لما هو كائن، لكنه غير قادر على الإبداع. الإبداع يحمل الشك والتمرد الدائم في جوهره، وهو عكس استقرار الدول، لكن لابد لأي دولةٍ تريد الاستمرار والبقاء على خارطة التاريخ أن تُبدع طرقاً في استخلاص طاقات هذه العناصر النادرة. كما تستخلصُ المفاعلات طاقة اليورانيوم بدل انفجاره السريع في القنابل النووية.

للأسف لم تكن مجتمعاتنا الشرقية مهيئة لهذه الفكرة، لذلك انهار الاتحاد السوفيتي بعد أن قضى بنفسه عملياً على مريديه وعشاقه. ولذلك وصلنا إلى هذه الحال في سوريا، ولقد لحقنا فيها دولاً عربية سبقتنا، بينما تستعد دولٌ أخرى للحاق بنا دون أن تستفيد من درسنا، حمى الله مصر، فهي على الأغلب التالية لنا.

اقرأ أيضاً: نعيش أزمة رهائن – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى