الرئيسيةرأي وتحليل

لو كنتُ مسؤولاً _ أيهم محمود

خصوصية واقع الشرق تعني خصوصية الأدوات اللازمة لتفكيك استعصاءاته والكف عن محاولة استيراد النظريات الجاهزة

سناك سوري – أيهم محمود

لو كنت مسؤولاً في هذه الدائرة الحكومية لفعلت كذا وكذا، لو كنت قائد مرحلةٍ هنا لفعلت هذا، لو كنت وزيراً لأوقفت كل الفساد، لو كنت … ولو كنت..

مازال معظم البشر في شرقنا أسرى الصورة النمطية للفرد – الإله الذي يتلفظ فقط بالكلمة فتخضع له الطبيعة والموجودات فيها، يعتقدون أن التغيير في مجتمعاتهم إرادة وأنه يكفيهم وجودها وصدقها حتى تنعكس تلقائياً في الواقع لتباشر تأثيرها عليه، هم يعتبرون ضمنياً أن من يوجد على رأس هذه الدائرة الحكومية غير صادق ولو كان كذلك للاحظوا وجود التغيير، الافتراضان مترافقان: النظرة السحرية للواقع وافتراض عدم صدق الآخرين لذلك تنحصر المشاريع السياسية في الشرق ببند واحد فقط: “ابتعد عن مكانك فأنا أريد أن أجلس فيه عوضاً عنك”، يكفيه الجلوس ثم كتابة الأوامر الصادقة حتى يحقق لمن يتطلعون إلى عطائه آمالهم وأمنياتهم وأمان حاضرهم ومستقبلهم، النظرة السحرية هنا أيضاً تحتاج طرفين، الواثق بقدرة كلماته وقدرة الجموع على صنع المستحيل وأولئك الذين يعتقدون بقدرة كلمة الفرد على قلب الوقائع المادية من خلال الإرادة فقط وخلال أيام قليلة أو ربما يكونوا أكثر صبراً بقليل ويمهلونه بضع أسابيع.

اقرأ أيضاً:سوريا.. تقاسم الوجع_ أيهم محمود

لم يشهد الشرق من الحركات السياسية أو الاجتماعية من يحاول تفكيك الواقع بطريقة علمية ليضع الخطط طويلة الأمد لتغييره والأهم من وضع الخطط هو نقاشها العام العلني ووجود مراحل محددة فيها تصلح كنقاط اختبارٍ لها واختبارٍ لقدرتها على التغيير الذي يأتي تدريجياً وفق قوانينه الذاتية لا دُفعةً واحدة كما يتخيله الحالمون بالعالم السحري.

في المقاربات السياسية والاجتماعية حتى نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي انحصرت محاولة تفكيك الواقع الشرقي باستيراد آلياتٍ معرفيةٍ جاهزة من العالم المتقدم علينا!، قد ينفع استيراد معمل إيطالي لعصر حبات زيتوننا، أو معمل أمريكي لحلج أقطاننا لكنّني على المستوى الشخصي أجد صعوبة في الاقتناع بجدوى استيراد بُنى فكرية جاهزة تصلح لتفكيك واقع ثقافي معقد أنتج ثلاث أديان كبرى في العصور الحديثة وهز العالم بحركاته السرية التي تشكل أساس الفكرة التي أنشأت معظم الحركات السرية الاجتماعية أو الدينية في الجزء من العالم الذي تأثر بثقافة المنطقة في فتراتٍ سابقة، ما نحتاجه في هذه المنطقة بعض الثقة بالنفس القائمة على معطيات علمية صحيحة وليس على قواعد سحرية لن تصل بنا إلى أي مكان، ثقةٌ تُبنى على تحقق أهدافنا المرحلية بدل القفز إلى الحلم بالهدف النهائي الذي ربما يحتاج عشرات السنوات أو حتى عشرات العقود لتحريك كتلةٍ ثقافيةٍ ضخمة تغييرها أو حتى تحريكها قليلاً ليس حتماً بالأمر اليسير.

تحديد أهدافٍ صغيرةٍ مرحلية يمكن أن يجنبنا القفز إلى مرحلة الوهم والتأثر بالأفكار السحرية التي نشأنا في بيئةٍ موبوءة بها، أي نشاطٍ سياسي واجتماعي هو نشاطٌ علميٌ بالضرورة يجب أن يتبع قواعده البحثية والتجريبية وإلا لن يصل إلى أي مكان غير ما وصل إليه هذا الشرق من مراوحةٍ في ذات المكان.

اقرأ أيضاً:إعادة بناء الهوية _ أيهم محمود

خصوصية واقع الشرق تعني أيضاً خصوصية الأدوات اللازمة لتفكيك استعصاءاته وتعني أيضاً الحاجة للإبداع الذاتي والكف عن محاولة استيراد النظريات الجاهزة والانتقال إلى شق الطريق أمام ولادة مفكّرين محليين يستطيعون خلق نظريات جديدة تتوافق مع الحالة التي يتوجب عليهم علاجها، لقد قادت سياسات العقود الماضية إلى تزايد اسعتصاءات الحل في الشرق وتراجعت قيمه التطورية على حساب تزايد قيم الجمود والتعصب والانغلاق الفكري والديني فهل نعتبر هذه النتائج كأهداف مرحلية أخفقنا في تحقيقها تدق ناقوس الخطر وتجعلنا نفكر في مساراتٍ بديلة، يجب عدم السير في طرقٍ كلما توغلنا فيها أكثر كلما ازدادت تعقيدات حياتنا وانتكاساتنا اليومية، هذه ليست دعوة للقوى الحاكمة أو للقوى المعارضة لها الطامحة للحلول مكانها وبدء دورةٍ سحرية جديدة بل هي دعوةٌ معرفية للعناصر الأصغر حجماً والأسرع حركةً التي تستطيع أن تؤسس علمياً لمناهج ثقافية جديدة محلية قابلة للتطبيق، لا قيمة لجمال الفكرة ولمدى استحسان الناس لها، لا قيمة لعملية الإجماع عليها فعندما وقف غاليلو معارضاً آراء الكنيسة لم يكن الإجماع الشعبي في صالحه لكن الوقائع العلمية هي ما منحته لاحقاً السمعة التي نعرفه بها الآن.

التفكيك يبدأ بلمس الخلل كما هو في واقعه وليس كما دأبت على تصويره الأدبيات الاستشراقية والأدبيات المتأثرة بها أو تلك التي ترى أننا نعيش في النعيم وكل هذه الانهيارات حولنا مجرد أوهام وإشاعات مُغرضة ينشرها أعداؤنا للتقليل من أهمية إنجازنا الحضاري الفريد.

اقرأ أيضاً:مساحات مهدورة تصلح للسكن _ أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى