الرئيسيةرأي وتحليل

بيروت الأُضحية – حسان يونس

عن التضحية في سياق تاريخي

سناك سوري – حسان يونس

مر من بيننا منذ أيام عيد الأضحى المبارك، والمعروف أن هذا العيد يتصل بحادثة تضحية النبي إبراهيم بابنه إسماعيل حسب المعتقد الإسلامي وابنه إسحق حسب المعتقد اليهودي.
لكن، خارج وقبل الاعتقادات الإبراهيمية اليهودية والإسلامية، مارس الكنعانيون التضحية بالأبناء، وبالقرابين البشرية، فكانوا يقدّمون للآلهة أضاحي خيرة أبنائهم، إذ يورد يوسف حوراني في كتابه الموسوم (لبنان في قيم تاريخه) نقلا عن المؤرخ ديودورس الصقلي حادثة شهيرة عن التضحية “عندما حاصر طاغية صقلية (اغاتوكل) مملكة قرطاجة في أواخر القرن الرابع ق.م فاختار القرطاجيون مئتي ولد من أحسن نبلائهم وضحوا بهم في حفلة علنية “. كما يورد حوراني أنه كان يضحّى في اللاذقية بفتاة عذراء تقرّبا من الإلهة “منيرفا”.

اقرأ أيضاً: نزاعات داخلية..أحداث من التاريخ تحاكي الواقع – حسان يونس

وسياق الحديث عن التضحية الكنعانية لا بد من ذكر التضحية الصيدونية الشهيرة، ففي العام 351 ق.م اجتمعت الأخوات الكنعانيات الثلاث أرواد وصيدا وصور في مؤتمر عام في (المدينة الثلاثية) طرابلس، وأعلنت الثورة على الفرس الاخمينيين بتنسيق مسبق مع المدن الإغريقية والمصرية، وردّاً على ذلك حاصر الطاغية الفارسي “اوخس”، خليفة “إرتحششتا الثالث” صيدا، على رأس جيش كبير في 351 ق.م، بعدما رفض محاولات الصلح وقتل أعضاء مجلس الشيوخ الصيدوني المئة الذين جاءوه بغاية الصلح، ثم قتل وجهاء المدينة الخمسمئة الذين جاءوه مصالحين أيضا، عندها فضّل الصيدونيون الموت انتحارا على الاستسلام، وجمعوا سفنهم وأحرقوها، كما أقدم الرجال على قتل نسائهم وأطفالهم، ثم أغلقوا أبواب منازلهم وأحرقوها على أنفسهم، ويروي التاريخ أن حوالي ٤٠ ألف شخص كانوا داخل المدينة، كان ذلك نوعا من التضحية الجماعية الرهيبة النابعة من عقيدة الأضحية الراسخة لدى الكنعانيين والنابعة من يقينهم بالخصب والتجدد الذي يستلزم الرماد، الربح الذي يستلزم الخسارة، الطهارة التي تستلزم العذاب .

اقرأ أيضاً: شعوب البحر والعثمانيين الجدد- حسان يونس

وإذا تجاوزنا التضحية كمفهوم ديني اجتماعي يحكم علاقة جماعة ما مع المجهول، فان هناك نوع آخر من القربان عرفه التاريخ الكنعاني، إنها التضحية بالمدن، ذلك أن قيام إمبراطورية الاسكندر المكدوني الهلنستية كلّفت مملكة صور، سيدة البحار ودرة التاج الكنعاني حياتها، فقام هذا القائد القادم من الغرب بإحراقها 332 ق.م ، بعدما قاومته وحاصرها سبعة أشهر، عجز خلالها عن اقتحام المدينة، وعند اقتحامها قام المقدونيون بقتل آلاف من سكانها وحاميتها، وقاموا باسترقاق وبيع ثلاثين ألف.

وقبل صور استلزم استمرار طغيان الإمبراطورية الفارسية على الشرق الأوسط، التضحية بصيدا في 351 ق.م، وفي 246 ق.م استلزم تكريس طغيان الإمبراطورية الرومانية على حوض البحر الأبيض المتوسط التدمير الكامل لقرطاجة، وإزالتها من الخارطة السياسية والجغرافية، وزرع الملح في تربتها كي لا تعود إليها الحياة مجددا.

وإذا تجاوزنا التاريخ القديم، وتوقفنا عند الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت في بيروت وعمت كل لبنان في سبعينيات القرن الماضي، نجد الزعيم اللبناني “كمال جنبلاط” يخبرنا في كتابه “هذه وصيتي” أن هذه الحرب كانت “غطاء دخانيا ناريا”، لتوقيع فصل القوات بين الطرفين في جبهة قناة السويس في 17/1/1974 بين مصر وإسرائيل، وهو الاتفاق الذي تدحرج خطوة فخطوة بجهود وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر وصولا إلى توقيع اتفاق كامب ديفيد في 17 أيلول 1978 للسلام بين مصر وإسرائيل، أي أن بيروت كانت مثل أخواتها أو جداتها الفينيقيات أضحية لقيام نظام إقليمي جديد، يحتضن إسرائيل، واليوم نقف مذهولين مرة أخرى أمام مشهد احتراق بيروت وتشكل فطر من الدخان والنار فوق المدينة، والسؤال ما هي المنظومة السياسية الجديدة التي جرت التضحية ببيروت مجددا من أجل قيامها، وهل يستحق هذا التاريخ الكنعاني العابق بالتضحية كمعتقد وكسياسة، أن نتذكره عندما يجتازنا عيد الأضحى في كل عام ؟!.

اقرأ أيضاً: عن الانتداب الفرنسي.. غزل من نوع آخر – حسان يونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى