الرئيسيةرأي وتحليل

العقل والعقلانية في التصرّف أثناء الأزمات-ناجي سعيد

تدابير الدولة الاحترازية من كورونا لم تضع بعين الاعتبار أمرين هامين

سناك سوري-ناجي سعيد

عرفتُ لاحقًا سبب إعجابي بسقراط وأرسطو، وذلك خلال دراستي الجامعية لإختصاص الفلسفة، لقد كانت تربية أهلي لي، والتي أكسبتني مهارة التفكير والحوار والنقاش مع كافة الناس. وكان هذا سهلاً في بيئة البيت العائلي، أمّا لو خرجنا لدائرة المجتمع الأوسع، فكانت مهمّتي التوفيق بين الفكر الذي أعطانا إياه أبي، والمعتقد السائد في المجتمع، فقد كان محظور مجتمعيًّا أن نعلن عن الفكرٍ المؤيّدين له.

ليس هذا موضوعنا، بل كنت أفكّر على المستوى الفردي، هل المذهب العقلاني الذي بدأ مع سقراط وآرسطو (وتابع هذا الطريق ديكارت وليبينتز وسبينوزا وغيرهم)، يحاكي “العقلانيّة” التي أؤمن بها طريقًا للتواصل مع الأخرين وللتعامل مع المشكلات والأزمات التي تواجهني؟ وهل هذه الطريقة العقلانية ترقى إلى مستوى “دولة وحكومة” تُصدر قرارات لحماية شعبها؟.

اقرأ أيضاً: التربية… والمُربي – ناجي سعيد

بالحقيقة، نعم. وليست هذه الـ “نعم” أمنية صعبة التحقيق، فما يُمكن تنفيذه من قبل الأفراد بالطبع يمكن أن يكون إجراءات إحترازية تأخذها الدولة، ويتبعها الشعب وهذا لصالح الصحّة الفرديّة والصحّة العامة. فقد سبقت دولة لبنان الصغيرة، الدول الغربية الكبيرة في فرض إجراءات تدبيريّة يتّبعها الناس للوقاية من إنتشار مرض “كورونا”. وأعتبر هذا الإجراء هو تصرّف عقلاني بالطبع. لكن ما يُدهشني هو أمرين لم تأخذهما الدولة بعين الإعتبار:

أوّلاً: لا يُمكن السيطرة على سلوك جماعي وهناك خلل على مستوى المواطنة. فالمواطنة للبعض مُستمدّة من مراجع دينية مختلفة وتعود بسلوكها إلى مرجعيّاتها على إختلاف مشاربها. وهذا قد يختلف مع مرجعيّة الدولة التي لا يمكنها فرض الأمان والوقاية من انتشار المرض الفيروسي إلا بالقوّة.

ثانيًا: عدم الأخذ بعين الإعتبار المستوى العقلاني الذي يستبعد فكرة “الهلع” من المرض، لمواجهة إنتشاره بطريقة ذكية.

ليس هذا هذيان، ولست أطلب المستحيل من الدولة لوقاية الناس. ومن الممكن أن يكون رصيد “العقلانية” مرتفع جدًّا، لو التزم الناس بتدبيرات وضعتها الدولة بعد أن درستها عقلانيًا وبشكل جيّد. ولا أستغرب من الشعب الصيني الذي حمّله العالم سبب انتشار المرض في العالم، وبغضّ النظر عن التفكير المؤامراتي (والذي لا أؤمن به) الذي يعتبر أن أميركا زرعت الفيروس في الصين لتحاول تدميرها، إلاّ أن الصين عملت وبشكل علمي وعقلاني على مواجهة المرض، والآن قضت على الحالة وهي لا تعاني من إنتشار المرض.

“كوريا” هي الدولة التي أحترم بشدّة إجراءاتها، وأعتبر أنها دولة جدًّا ذكيّة بالتحليل العقلاني التي استنتجت منه نصائح قدّمتها للناس:

لدى كلّ إنسان “يد مُسيطرة”، يُمنى أو يُسرى، وهي التي تُستخدم عادةً في لمس الوجه أو أعضاء الوجه (حكّ الأنف، الأذن، العين..) لذا طلبت الحكومة الكورية من الناس أن يستعملوا اليد الأُخرى (غير المسيطرة) للقيام بأمور يومية يقومون بها، فتح باب المنزل، السيارة.. وما إلى هنالك، وفي حال إلتقاط الفايروس من أحد السطوح التي تلمسها اليد اليسرى (غير المسيطرة) لا ينتقل للوجه من اليد المُسيطرة التي تُلامس الوجه.

إن هذا الخطاب العقلاني يُحاكي مستويات الذكاء كافةً عند الناس، وهو غير موجّه لفئة دون أخرى. وبالتالي سهل التنفيذ. أما في الدُول العربية، فقد تسابقوا على فكرة الحجر المنزلي، الذي يلائم المنع التربوي الذي يحاكي “عواطف” الناس.

اقرأ أيضا: استخدام العقل.. معضلة البشر المُتعبة – ناجي سعيد

انتشر على وسائل التواصل الإجتماعي فيديو لأناس في زيارة لأحد المقامات الدينية وهم ينشدون التالي:

” هي سوالف فيلم الهندي
ما تعبر على جند المهدي
هو يعقمنا وما يعدي.. وهو يدخلنا الجنات
نلبس عيب.. كمامات ”

ليس هذا انتقادًا لمُعتقد مُعيّن (ربطًا بالمقال السابق “إتبع عقلك“) بل انتقاد لمن يتبع قلبه دون التوازن بين العقل والقلب، هذا ولم يأمرنا الله برمي أنفسنا بالتهلكة، فهذا حرام. والحديث المعروف عن الرسول حول ذلك، قال رجل للنبي : “يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل؟ قال: بل اعقلها وتوكل” رواه الترمذي.

(وعقل الناقة يعني: شد ركبة الناقة مع ذراعها بحبل لمنعها من الحركة والضياع أثناء غياب صاحبها، وسمي العقل عقلاً؛ لأنه يمنع صاحبه عن التورط في المهالك، والعاقل هو من يحبس نفسه ويردها عن هواها).

كلّ هذا الحديث لأخلص فقط إلى أهميّة غلبة العقل والعقلانية في التصرّف أثناء الأزمات. والعقلانية هي الطريق القويم الذي يفضي بمتّبعيها إلى حياة ملؤها الصحة الجسدية والنفسية وبالتالي الاجتماعية فبناء الهويّة الفردية هو أساس لهويّة مجتمعيّة سليمة. مع العلم أني لا أوافق على المذهب العقلاني الديكارتي الذي يؤمن بفطرية الدماغ، فالدماغ الذي يفلح هو الدماغ الذي يستقي سلوكه من تجارب عديدة وسابقة، وهذا ما يُعتبر العقلانية العلمية.

اقرأ أيضاً عن عُنف الشارِع والجوع وسوء السلطة – ناجي سعيد

  • ناجي سعيد – كاتب لا عنفي – من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى