العباقرة والبطالة: حوار ما بعد الحرب

منذ أن وجد “فلاح” نفسه مطروداً من وظيفته ونازحاً بلا مأوى أو عمل تفتحت عبقريته وبحثه الدؤوب عن حركة ثقافية مضادة. لكن منذ إنهيار سعر الصرف وقفز الدولار ومعه السلع لأسعار جنونية. لاذ بالصمت هو وحركته تلك . وأخذ كباقي العباقرة يبحث بشهية مفرطة عن عن بديل للبطالة التي يقبع فيها الآن. عله ييستبدلهما بعمل. وحاله كمثله من سائر المعيلين في قرى الجولان . فبيته وأولاده أولى بالاهتمام .
سناك سوري – شاهر جوهر
واليوم – وفي نفس السياق – زارني بيّاع الديوك. شاب فوق الثلاثين . ارتدى شماخه إلى وراء كذيل حصان كاشفاً عن صلعته المغمورة بالعرق والمسفوعة بتأثير الشمس مثل ديك بلدي أصيل. قبل أن يجمّع رجليه تحته دون أن يلقي التحية حتى. ثم أخذ يرمق فأسي وأنا أزرع البصل وبعضاً من الثوم متحدثاً بإعجاب عن عبقرية “فلاح” (شخص من القرية). وكمن يحدث نفسه راح يحدثني كيف أن “فلاح” يمتلك تسعة حمير و يحبهم كحب أبناءه. و يومية كل حمار عنده ألف ليرة في الوادي.
ثم ضاقت فرجتي عينيه وأخذ يجيل بناظريه مساكب البصل التي زرعتها وكأنه يتمنى في سره أن يكون حماراً عند “فلاح” . و بين حين وآخر يمط طرف فمه بابتسامة زائفة. يغمزني ويومئ برأسه إلي بأن أكمل عملي وألا أعطي بالاً لحديثه .ثم يكمل حديثه معي عن العباقرة عبر التاريخ وأنهم “أشخاص معاقون ذهنياً ونفسياً”. رغبة منه ليقنع نفسه أن “فلاح” – من هو أصغر منه سناً – رجل معاق ذهنياً حتى جمع تلك الثروة من لا شيء ودون أن يتدخل بانحياز لأحد طرفي الصراع في بلادنا.
سمعته حتى النهاية لكنني لا أذكر أن نظرية «كل عبقري معاق – فلاح عبقري – إذاً فلاح معاق » هي لي. لكن ما أعرفه وبدون مراء أن انتشار البطالة في هذه القرية بعد الحرب استوجب هذه النميمة. وبما أني الفهمان الوحيد في العشيرة – وفق رأيه – ألقيت بالشوكة والفأس وتربعت فوق جزمتي الغارقة في الطين وطفقت أشرح له بنميمة و بفلسفة جولانية خانقة وجهة نظري.
اقرأ أيضاً: خالد القيش.. ابن الجولان المحتل ينتظر المال لتحقيق حلمه
وكيف أن غالب العباقرة عبر التاريخ هم معاقين فعلاً و أن ولادتهم كانت غير سوية. وكيف أن فولتير ولد نصف ميت. ونيتشه عاني من نوبات صرع رهيبة . في حين امتلك كثيرون عاهات مختلفة مثل الطرش لدى بيتهوفن وأديسون. ووجه بائس مثل غوريلا شمطاء لـ تلستوي ورأساً ضخماً لـ ميرابو .
بعدها إتفقنا على كل شيء. وتعارضنا حد العصبية عندما لم يعجبه قولي أن “فلاح” شخص عادي لكنه غيّر أصوله الإنتاجية عندما تبدّلت قوانين العرض والطلب في البلاد ولهذا وبدل أن يعتمد على أولاده وشهاداته أخذ يتاجر بحميره كأي من العباقرة حين يجتاحه خطر البطالة ويدرك ما يمكنه أن يستثمر فيه.
لكن و لمعرفتي ما يخبئه البدو من عصبية اتفقنا في النهاية بعد شدّ وجذب على تسوية تقول :
أن فلاح إبن عشيرتي الغالية مثل سائر أبناء الجولان بعد الحرب. مخلوق حساس و بريء لوثته الحرب ببندقية وبلحية مستعارة ليدافع عن نفسه. يربي سكسوكة في المناسبات وله حمالات للبنطلون .
يذكر أن هذا النقاش السفسطائي هو حديث يومي متكرر ولا ينتهي بين أي سوريين لا يملكون عملاً. سواء هنا حيث تدير المعارضة البلاد أو هناك حيث الحكومة تحكم أبنائها . وفلاح وبياع الديوك هما نسخ طبيعية أفرزها الواقع الاجتماعي وتبّلتها الحرب