في التسعينيات عانى ما عاناه المراهقون والأطفال في الريف أكثر ممن هم في سواهم، خصوصاً أولئك الذين ابتلاهم الزمن في عادة مج السجائر، يصرفون نهارهم على أطراف الشوارع يبحثون عن عقب سيجارة أو حتى فلتر سيجارة مطوي، لربما لهذا السبب أشيع المثل القائل هنا أن “في كل خرابة تجد عفريتاً”، إذ باتت الخِراب ملجأهم لمج تلك الأعقاب بعيداً عن أعين ذويهم.
سناك سوري – شاهر جوهر
لهذا تجد بعضهم كالجِراء الشاردة يذرعون الأرصفة والحارات بحذر، وعلى هذا الأساس تنمّطت علاقة السكان بهم فكانوا صنفان، صنف يرمي لهم عقب سيجارة حتى يصطادوهم ليكسبوا من ذويهم الحضوة وصنف يطردهم بالعصي والحجارة كمنبوذ.
أخي الأوسط عانى من عقدة التسعينيات، أذكر ذات نهار رآه أخي الكبير مختبئا يتقلّب على دفتيه في إحدى الخِرب مستمتعاً بربع سيجارة، فتمت مطاردته من الحي بأكمله، وحين وصل أخي المذنب إلى المنزل كان ينفض الهواء من رئتيه من التعب والخوف، سألته والدتي عن سبب جفلته تلك، صاح مذعوراً: “ابنك قاتلي”، بالفعل إنه كان يعي ما يقوله حرفياً، الحي كله كان يريد قتله حتى أمي.
تبدلت الأمور اليوم أكثر من ذي قبل، لم يعد مج السجائر في الخفاء خطيئة المراهقين، كما لم تعد خشية الآباء على أبنائهم متوقفة على تدخين التبغ. فقد رتبت صنوف جديدة للانحراف جعلت التبغ أسلوب حياة جديد أمام فظاعات المخدرات التي تتزايد كل يوم.
اقرأ أيضاً: “سوريا”.. الزواج المبكر ينتعش خلال الأزمة والنسبة وصلت إلى 46 %
الملفت بالنسبة لي على الأقل أن شخص مثل “حجازي” ذو الشاربين الكحليان أصيب بكل أنواع الصدمات النفسية حين وشى أحد رفاق ابنه له عن قيام ابنه بتدخين سيجارة كاملة خلال لعب ورق الشدة قبل أيام.
وبلحظة عصبية رماه بقطعة خشب كانت قربه جعلت الدماء تسيل من رأسه، الجميع لام “حجازي” لفعلته العنفية غير الحضارية، وسمعت أحدهم يهدهد له قائلاً :«أشكر ربك أنه لا يتعاطى الحبوب .. دخان!؟ يارجل بأي عصر تعيش؟»، إلا أن أحداً لم يعاتبه على أنه كان سيقتل ابنه بقطعة الخشب غضباً من أنه قد يقتل نفسه بالتدخين!!؟؟
بعد الحرب نشأ جيل جديد جلّ ما يعرفه نسبة كبيرة منه هو أنواع المخدرات وأنواع الأسلحة، هؤلاء لا يتذكروا الربيع، كل ما شاهدوه هو الذبح والقصف والمنازل المركومة ودخان البارود يلبد سماء طفولتهم. لهذا وأمام هذا الإنهيار القيمي في مجتمعنا حمل آباء كثر أولادهم وهاجروا بحثاً عن الربيع.
سألت أحد الاصدقاء ذات مرة حين وقف أمام منزلي طالباً مني الصفح لأنه يريد أن يغادر، احتضنته حزيناً وسألته سبب هذا القرار المباغت، قال بتودد :«لم يؤلمني شيء خلال سنوات الحرب بقدر ما آلمني أن بعض طلابي الفاشلين في الثانوية العامة دورة 2013 أصبحوا أطباء ومهندسين ومدرسين، ماذا سأقول لأولادي حين يبلغوا وقد تسلم هؤلاء إدارة مجتمعنا؟ إني مؤتمن على مستقبلهم».
اقرأ أيضاً: شباب جيل الحرب لا يجيدون القراءة.. الأمية في سوريا