الرئيسيةرأي وتحليل

سوريا التاريخية.. لا تحتقر إلهاً لا تعبده – حسان يونس

الجزيرة السورية خصبة الأفكار والمعتقدات من دورا أوربوس إلى ماري

سناك سوري – حسان يونس

في شمال شرق سورية تتوضع واحدة من أهم المناطق الأثرية في العالم، تحرسها حقول القمح والقطن وكثبان الرمال وأناشيد الفراتيات المتناغمة مع أناشيد دجلة والفرات، وإذا كانت الجزيرة السورية تشتهر بالقمح والقطن والبترول والكمأة والخصب الاقتصادي اللا متناهي فإن هناك خصباً من نوع آخر يغلّف تاريخ هذه المنطقة المثيرة للجدل والاهتمام والرهبة، إنه خصب الأفكار والاعتقادات، فإلى الشرق والجنوب من دير الزور (90) كم باتجاه البوكمال تتوضّع دورا أوربوس (الصالحية وفق التسمية المحلية، بومبي وفق التسمية الأوروبية)، علما أن دورا تسمية آشورية تعني الحصن، أما أوربس فتسمية يونانية تشير إلى أوروبا وهي الأميرة السورية ابنة أحبينور ملك صور، كما أنها مدينة مقدونية.

تعتبر دورا أوربس متحف ثقافي قائم بذاته يعكس الولع بالخصب وبالتنوع الخلاق وبالعصف الذهني لمدارس فكرية وجماعات بشرية مختلفة، ففيها تتعدد وتتجاور الأديان والمعابد خلال زمن واحد، وخلال أزمنة مختلفة دون أن يمسّ أيا منها الآخر وفق المقولة الشهيرة “لا تحتقر إلها لا تعبده”، حيث تم الكشف عن (17) معبداً مختلفاً في ربع الموقع المنقب عنه تقريباً (ومن المنطق أن تظهر معابد أخرى من خلال التنقيب مستقبلاً)، وهي أكبر نسبة معابد متنوعة في العالم إذا ما قيست إلى مساحة المدينة المنقبة.

اقرأ أيضاً: أخطاء شائعة عن معالم تاريخية في سوريا حسان يونس

ومن أشهرها: كنيسة تعود إلى 235 م وتسمى الكنيسة المنزلية وهي الأقدم في العالم (في هذا التاريخ كانت المسيحية تُمارسُ سِراً في الإمبراطورية الرومانية)، كنيس يهودي، معابد للآلهة التدمرية (بل، أرصو)، معابد الآلهة اليونانية (أرتميس نايا، زيوس تيوس، أفروديت اليونانية)، معابد للإلهتين السوريتين (أتار غاتيس، أفروديت السورية)، معبد الإله الروماني ميثرا ذي الأصول الفارسية، وفي هذه المعابد توجد أقدم رسوم للسيد المسيح وللنبي ابراهيم وللنبي موسى، كما يتوضع في الشارع الرئيس (الشارع المعمّد) جنبا إلى جنب الكنيس اليهودي والكنيسة المسيحية وخمسة معابد أخرى وثنية بتآلف مذهل وساخر من كل أتباع التطرف والأحادية الإلغائية.

خضعت دورا أوربوس للأشوريين والبابليين وللفرس الأخمينيين وللرومان ومن ثم للفرس الساسانيين حتى استعادها أذينة ملك تدمر 256 م وجعلها الميناء الرئيسي لتدمر وحامية عسكرية متقدمة فبلغت قمة ازدهارها التجاري والثقافي حتى سقوط تدمر 273 م، واستيلاء الإمبراطور الروماني أوراليان عليها.

اقرأ أيضاً: الطقوس الدينية والطبيعة السورية القائمة على التنوع  حسان يونس

إن دور أوربس ليست حالة فريدة بل تعكس ثقافة راسخة في حوض الفرات، حيث نشأت عدة مدن لعبت دوراً تجارياً هاماً، دفع بها إلى اعتماد التنوع والتسامح والتفاعل مع الثقافات المحيطة شرقاً وغرباً، فإذا تتبعنا مجرى الفرات جنوباً وشرقاً نصل إلى مملكة ماري التي تبعد 12 كم عن البوكمال، وهي محطة تجارية هامة تأسست في منتصف الألف الرابع ق.م ودُمِّرت على يد حمورابي 1760 ق.م، وتميّزت أسوة بدورا أوربوس بالحرية الدينية، فوفقاً للدكتور بشار خليف، عُبِد الأرباب السومريين والعموريين في ماري بآن واحد، حيث اكتشِف معبداً للآلهة السومرية نيني زازا، ومعبداً لآلهة الخصب عشتار، كذلك معبداً للإله (شمس) ومعبد الأسود للإله داجان الذي كان يمثّل الإله الرئيس في ماري (لا تزال تستعمل كلمة دجن في سورية للتعبير عن الخبز)، ومعبد الإلهة السومرية الأم نينهورساج، كما قدمت نصوص ماري ما يزيد على 125 اسماً إلهياً مقدساً يجري تعبدها في كافة أرجاء المدن السورية مثل حدد وسين …، بالإضافة إلى العثور على زقورات ذات مهمات مدنية اجتماعية، إذ عرفت ماري تنظيم اجتماعي متطور تجلى في جمعيات على شاكلة غرفة تجارة ماري واسمها (كاروم) من جذر (كار) ويعني مهنة، كما قدمت وثائق ماري معلومات عن جمعيات للفقراء كان يُطلق عليها اسم (الموشكينوم) بمعنى المساكين، إلى جانب ذلك وجد في ماري مدرسة القصر الملكي وهي أول مدرسة عرفت التنظيم في التاريخ، فقد تميزت بمصاطب مرتبة كترتيب مقاعد الصف مع وجود فواصل بينها لتسهيل مرور الطلاب هناك قاعتان للدراسة تضم الأولى 24 مقعداً والثانية 25 مقعداً مبلطة الأرضيات بالآجر والجدران مطلية بالطين.
إن الفرات في جريانه الخالد يسخر من كل من حاول إلصاق سمة التعصب والانغلاق بحوضه، وقد كانت شطآنه في دورا أوربس وفي ماري ملتقى للاعتقادات والبضائع الكنعانية والعمورية والآرامية والرافدية وإن هذه التجارب مهما كانت مغرقة في القدم ستظل علامات راسخة في وعينا المنفتح على كل الثقافات.

اقرأ أيضاً: إدلب المملكة التي فصلت السلطة الدينية عن المدنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى