تجربة الإدارة المحلية في سوريا ومرض المركزية الشديدة
الإدارة المحلية في سوريا أسيرة التجربة المصرية وإرث الوحدة
لا تخرج تجربة الإدارة المحلية في سوريا عن المنطق الذي حكم كل ما سبقها من تجارب، أي تنظيم العمل البلدي وإدارة المحليات وضمان تمثيلها ومشاركتها في الحكم. لكنها في السياق السوري اتخذت انعطافاً كبيراً مازال يؤسس عليه إلى اليوم. وبذلك قد يكون من المفيد العودة إلى بدايات هذه التجربة وقراءة المشهد حينها، في محاولة لفهم أوسع على صعيد المفهوم والتطبيق.
سناك سوري – بشار مبارك
تاريخياً راكمت الدولة السورية العديد من التجارب في مجال العمل البلدي وإدارة المحليات، والتي اختلفت شكلاً وتطبيقاً تبعاً لتباين الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي رافقت كل منها. وقد حاولت جميعها، بشكل أو بآخر، تنظيم علاقة المحليات بالسلطة المركزية، كسبيل إلى استقرار منظومة الحكم في كل مرحلة من مراحل الدولة السورية.
نقطة البدء كانت مع تجربة الوحدة مع مصر، التي أدخلت البلاد في نهج شديد المركزية افتُرِض حينها أنه ضرورة لتثبيت دعائم الوحدة. ويتضح ذلك بقرار حل الأحزاب السورية الذي ساهم بإقصاء النخب المحلية والوطنية وتدمير الحياة السياسية.
فرض النموذج المصري على الإدارة المحلية في سوريا
والنقلة الأهم، فرضتها جملة من المراسيم التي أقرت تطبيق عدد من القوانين ”المصرية” في الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة (سوريا). فتلك القوانين، وعلى الرغم من أنها جاءت كنتيجة طبيعية لتطور الواقع الاجتماعي والسياسي في مصر. إلا أنها فرضت حينها على سوريا دون أي قراءة للسياق التاريخي والمجتمعي السوري، ودون أية مراعاة للخصوصية والاختلاف بين سوريا ومصر. وبذلك فقد صدر القانون رقم 152 لعام 1961 القاضي بتطبيق القانون رقم 124 لعام 1960 المتضمن نظام الإدارة المحلية في الإقليم الجنوبي (مصر).
واعتباراً من هذا القانون دخلت تجربة ”الإدارة المحلية” في سوريا كمفهوم جديد ينظم العمل البلدي بالبلاد. ولم يكن التغيير على صعيد المصطلح فحسب، بل أحدث نقلة كبيرة فُرِضت فرضاً على سياق التطور التاريخي لدولة مثل سوريا. ويمكننا القول بأنه سياق أكثر تعقيداً وخصوصية من السياق المصري.
فمقابل دولة كمصر، تشكلت على مهل عبر حقب تاريخية كثيرة على صعيد الجغرافيا والهوية والمنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كانت سوريا دولة حديثة العهد، ظهرت على الساحة السياسية بعد انتهاء الدولة العثمانية، وعانت خلال سنواتها القليلة التي سبقت الوحدة تغييرات كبيرة على صعيد الجغرافيا والهوية والسياسات الخارجية والداخلية التي حرمتها الاستقرار وأعاقت صياغة هويتها ومنظومة الحكم التي تنسجم مع غناها وتنوعها الكبير قومياً وإثنياً ودينياً واجتماعياً واقتصادياً وبالتالي سياسياً.
المركزية الشديدة هوية إدارة مصر التاريخية.. لا تشبه سوريا
تاريخياً، لم تعرف مصر إلا نظام الحكم الشمولي، ويمكننا العودة إلى الوراء حتى نظام محمد علي وأبعد منه إن أردنا. لنجد أنها كانت دوماً تحت نظام حكم مركزي منغلق حول سلطة حاكمة اختصت لنفسها بإدارة البلاد. وحتى بعد إلغاء الملكية، فإن الحكم الوطني الذي قام بعدها، ورث نفس المنطق الشمولي والمركزية الشديدة في الحكم وإدارة البلاد.
الإدارة المحلية وفق هذا المنطق هي “نظام إجرائي” كما نص عليها القانون المصري. وهي بهذا المعنى سلسلة إجراءات لإدارة شؤون المحليات من المركز، دون أي إشراك حقيقي للمحليات في الحكم وإدارة البلاد
وضمن هذا المنطق أتت الإدارة المحلية المصرية كاستجابة طبيعية فرضتها المركزية الشديدة التي تريد تخفيف العبء عنها على المستوى المحلي. لذلك عملت على توكيل ممثلين عنها في إدارة شؤون المحليات وتنفيذ سياساتها المركزية التي تضمن تثبيت أسس حكمها.
والإدارة المحلية وفق هذا المنطق هي “نظام إجرائي” كما نص عليها القانون المصري. وهي بهذا المعنى سلسلة إجراءات لإدارة شؤون المحليات من المركز، دون أي إشراك حقيقي للمحليات في الحكم وإدارة البلاد. وهو منطق يمكن فهمه في ظل حكم شمولي لا يعترف بالشراكة على المستوى المركزي، ونرى انعكاس وامتداد تلك الشمولية على المستوى المحلي، من خلال عدم إفساح المجال للمحليات بإدارة نفسها بحرية، كي لا يطلب من السلطة المركزية ترجمة ذلك لاحقاً على بقية المستويات.
من التجربة المصرية إلى المقاربات السورية
ورثت سوريا من الوحدة منطق الحكم الشمولي والمركزية الشديدة في إدارة البلاد. والدروس المستفادة من هذه التجربة كانت كثيرة، واستُثمِرت للمضي في مرحلة جديدة من تاريخ سوريا. فبدلاً من إقصاء القوى والنخب السياسية والمحلية، كان هناك احتواء.
وقد تمت مقاربة نظام الإدارة المحلية ضمن سياق سوري مستجد. فلم تكن نظاماً للإدارة فحسب، بل مساحة للاحتواء وضبط إيقاع المحليات على إيقاع المركز وخدمة له. وهذه المقاربة التي مازالت حاضرة فهماً وتطبيقاً، كنظام إجرائي لإدارة المحليات، وكأداة بيد السلطة المركزية للاقصاء حيناً وللاحتواء أحياناً أخرى. وقد رافق ذلك كثير من المبررات التي تعززت أكثر فأكثر خلال العقود الماضية، وكرست للسلطة المركزية نفوذاً قوض أي فرصة للنهوض بواقع المحليات مجتمعاً وسلطة.
وحتى السلطات المحلية التي تشكلت في مناطق الصراع بعد 2011 بقيت مساحة لتمثيل واحتواء القوى المؤثرة ضمن خارطة النزاع. دون أن يكون هنالك فرصة حقيقية لحضور صوت المجتمعات المحلية الذي غاب طويلاً.
ومع اندلاع الأزمة في سوريا 2011 وتراجع سلطة المركز عن كثير من المناطق لاسيما خلال السنوات الأولى من عمر الأزمة، كنا أمام مقاربات عديدة لإدارة المحليات. وهذه الإدارات الجديدة وجدت نفسها فجأة أمام ما افترضته مساحة للتحرر من سلطة المركز، وصوغ تجربتها. لكنها بشكل أو بآخر استنسخت من التجربة الوحيدة التي اختبرتها ( الإدارة المحلية )، فكنا أمام عدد من التجارب التي اختلفت تسمياتها لكنها بقيت في جوهرها أداة بيد سلطات الأمر الواقع ومفرغة من أي حضور أو فعل حقيقي على الأرض إلا فيما ندر.
وحتى السلطات المحلية التي تشكلت في كل منطقة من هذه المناطق بقيت مساحة لتمثيل واحتواء القوى المؤثرة ضمن خارطة النزاع. دون أن يكون هنالك فرصة حقيقية لحضور صوت المجتمعات المحلية الذي غاب طويلاً.
المستقبل محكوم بمدى الاستفادة من التجارب والدروس
إذاً على الخارطة السورية اليوم ” إدارات محلية ” حتى ضمن مناطق السيطرة الواحدة. ويختلف سياق هذه التجارب شكلاً أكثر منه في المضمون. لكنها تبقى محاولة لبناء مقاربات أكثر استجابة للسياقات المحلية وخصوصيتها.
تبدو أهمية هذه المقاربات في توصيفها وتحليل دينامياتها ونقاط الضعف والقوة فيها. والانطلاق منها لبناء توافق سوري حقيقي باتجاه استراتيجية وطنية تعتمد اللامركزية منهجاً في التفكير والعمل ورسم السياسات وتنفيذها على المستويين المحلي والمركزي.
ومسار مثل هذا يتطلب توفير بيئة عمل مشتركة وآمنة بين المؤسسات الحكومية والمجتمعية وعلى رأسها المجتمع المدني على اتساع طيفه. دون أن ننسى المنظمات الدولية وما راكمته من خبرات في سياقات دولية مقاربة للواقع السوري، أو حتى ما راكمته من تجارب ودروس مستفادة من العمل مع السلطات المحلية على امتداد الجغرافيا السورية.
إن تجربة الإدارة المحلية في سوريا اليوم أمام مفترق طرق، بين الانكفاء ضمن إطارها الحالي الذي أثبت الواقع ضعفه في الاستجابة لتعقيدات المشهد السوري على اتساعه. وبين صياغة تجربة حقيقية تخرج من عباءة الماضي لترسم مستقبل هذه البلاد وأهلها.