هل التراجع الأمريكي حقاً تراجع؟ – أيهم محمود
الكاتب يتحدث عن انهيار عالمي: نتمى أن نكون مخطئين في رؤيتنا هذه

سناك سوري-أيهم محمود
تحفل الأدبيات السياسية الحالية بالعبارة الساحرة “التراجع الأمريكي”، وهو المصطلح العائم الذي يتخذ أشكالاً هلامية يصعب ضبطها وتحديدها في قالب عقلاني ومنطقي واحد، التنظير للتراجع الأمريكي حالة عاطفية لدى المهزومين سابقاً بينما الواقع يتحدث عن وقائع وظروف مختلفة عما يتخيلون، إن كان قصد الفرقاء تراجع أمريكا عن رغبتها بلعب دور الشرطي العالمي، فهذا واقعٌ لا يمكن إنكاره خاصةً أن أصحابه أنفسهم لا ينكرونه بل يصرحون به علناً، لماذا قرر الأمريكي التخلي عن دوره العالمي؟ ولماذا يبتهج الخصوم بهذا التخلي؟ وهل سيدوم فرحهم هذا طويلاً أم سينتهي بفاجعة للجميع.
التركيز على الجزئيات الصغيرة يشبه أن نشاهد لوحة فنية وعيوننا شبه ملتصقة بها، بقع لونية مختلفة فقط، لكي نرى اللوحة يجب أن نبتعد عنها مسافة مناسبة، ولكي نعي ما يريده الفنان علينا أن نفكر بعمق ونحلل كل لون ورمز فيها، لذلك يبدو مصطلح التراجع الأمريكي هلامياً وعائماً يتناوب بين الإيمان القطعي به لدى بعض الفرقاء وبين النفي النهائي له لدى آخرين في تعصبٍ لا يقل عن تعصب من يؤمن بوجوده.
ما يميز الثقافة الأمريكية ديناميكيتها العالية، وقدرتها على التكيف السريع مع المتغيرات، أمريكا دولة فتية ليس لها ماضي يقيدها مثل دولة إيران الحالية التي ورثت تاريخ الفرس أو الصين أو اليابان وغيرها، التاريخ كتلة، والكتلة تعني ممانعة أكبر للانعطافات الحادة والتغير السريع في الحركة، ماذا لدينا من وقائع في زمننا لنفهم التراجع الأمريكي؟ لنبتعد عن اللوحة العالمية قليلاً لنستطيع مشاهدة جوهر ما يحدث حالياً في العالم.
المفتاح الأساسي للمشهد هو اقتراب سنوات نضوب النفط أو على الأقل التخلي عن استخدامه بشكل مكثف نتيجة الخلل البيئي والضرر الشديد الذي أحدثه في كوكب الأرض، نحن مقبلون على عصر قاسي للغاية سيرافقه تخفيض قسري في عدد سكان العالم حتى يستعيد البشر توازنهم مرة أخرى مع الموارد المتوفرة في كوكب الأرض، الإنسان الذي ظن نفسه خارج معادلة الموت والجوع وخارج معادلة التكيف مع الموارد المتاحة سيشاهد فقد المليارات لحياتهم في فترة قصيرة، هذا المشهد ترفضه عقول البشر بفعل آلية الإنكار التي تحاول حماية الإنسان في حالة الأزمات القاتلة لكي لا يتم القضاء على آخر الأمل فيه.
اقرأ أيضاً: الخلل المنطقي أعمق وأخطر من الخلل السياسي – أيهم محمود
الإنكار لا يمنع حدوث الكوارث القاسية لكنه يخفف من آلامها عند الأفراد، للأسف آلية الإنكار ليست متوفرة لدى الجميع، هناك طبقة علمية خاصة تتحمل ألماً لا يوصف وهي تحمل الحقائق الثقيلة الشائكة فوق ظهورها، أمريكا لديها الكثير من هؤلاء بفعل استقطابها لهم عبر تاريخها كله، هذا مُحدد واحد فقط لا يكفي لفهم كامل اللوحة، لنتابع…
ما حمى أمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية هو خصوصية موقعها الجغرافي، لا يمكن لأمريكا أن تتعرض لزحف بري والغزو البحري يبدو مكلفاً وشبه مستحيل في ضوء القدرات الدفاعية لها، الضربة الوحيدة الممكنة حالياً هي الحرب النووية وهي تعني نهاية العالم الذي نعرفه الآن والعودة إلى العصور الحجرية إن استطاع كوكب الأرض النجاة.
في ضوء هاتين النقطتين السابقتين نرسم حدود مصطلح التراجع الأمريكي، سيارة صدئة مهترئة تعمل على الوقود التقليدي فرح الفرقاء بالحصول عليها في الزمن الذي بدأ فيه العالم الانتقال إلى عصر السيارات الكهربائية، هذه حال من يتحدث بسعادة عن التراجع ويصوره كانتصار، حان وقت إدارتهم لهذه السيارة التي انتهت صلاحية استخدامها ودفع الأثمان الباهظة لصيانتها وتأمين الوقود المناسب لها، تنظيم العالم بشكله الحالي لا يصلح للمرور من فوهة ضيقة جداً للأزمة القادمة ولا توجد قوة قادرة على إصلاحه وخاصة مع وجود حالة من الإنكار الشديد لوجود أزمة عالمية.
نشاهد الآن في العالم كله الانهيار السريع للثقافات السائدة تحت ضربات آليات السوق والنهب المكثف لشعوب وحضارات بأكملها، من يحكم العالم حالياً هو الشركات العملاقة، السياسيين -بل وحتى الأكاديميين- هم مجرد واجهات شكلية لها، لم تعد النظريات الكبرى مثل الاشتراكية والرأسمالية بشكلها الحالي قادرة على احتواء وتنظيم حركة البشر، إذاً نحن مقبلون على حروب ستندلع في كل مكان كما اندلعت حرائق الغابات في العالم كله نتيجة ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض وتزايد أعمال تخريب البيئة لأسباب اقتصادية أو انتقامية.
اقرأ أيضاً: امتلاك السلطة ليس كافياً لإحداث التغيير – أيهم محمود
استغلت دول مثل الصين انشغال المراهق الأمريكي بخيالاته الطفولية التي تمحورت حول صورة البطل الذي يستطيع هضم الكرة الأرضية هي وسكانها وبيئتها لتطور صناعتها وقوتها العسكرية وتحاول انتزاع المكانة منه، أخيراً كبر المراهق قليلاً ليكتشف أنه لم يعد هناك الكثير لنهبه وحروب البؤس والفقر والقهر ستندلع لا محالة في كل مكان، فليبتلع خصومه هذه النار المشتعلة وليفكر هو بالخروج من الأزمة المقبلة كما خرج من الأزمة السابقة التي انتهت بانفجار الحرب العالمية الثانية.
للأسف لا توجد مسارات حلول سحرية لأزمة البشر الحالية ولا يستطيع أحد تشكيل القوة الكافية لمنع الانهيار القادم، ما يسميه الفرقاء التراجع الأمريكي هو خطوة متقدمة وذكية تهدف إلى زيادة فرص نجاته في عالم يتجه نحو الانهيار، عالم لا مكان فيه لأي فرحٍ أو أي انتصار، الهزائم فيه ستكون قدر الجميع بلا أي استثناء.
نتمنى أن نكون مخطئين في رؤيتنا هذه.
اقرأ أيضاً: الوباء الطائفي نفسه في صيغةٍ عكسية – أيهم محمود