المنازل القاتلة: حمى بناء المنازل السكنية _ أيهم محمود
ظاهرة في سوريا ستؤدي إلى آثار قاتلة على حياة السوريين مستقبلا
تراجع النشاط الصناعي والزراعي خلال سنوات الأزمة السورية على الرغم من وجود حالة حرجة تتطلب زيادة نسبة المنتجات المحلية اللازمة لاستمرار حياة السوريين، في المقابل نجد نشاطاً مستمراً في قطاع إنشاء الأبنية السكنية بلغ ذروته في دمشق العاصمة مع إطلاق مشروعين عقاريين كبيرين يستطيعان استنزاف كتلة مالية ضخمة خارج معادلة التصنيع التي هي أكثر من ضرورة لأنها العامل الأهم في وقف تراجع قيمة العملة السورية بسبب نزيف الاستيراد.
سناك سوري-أيهم محمود
يصطدم التفسير الإيجابي الممكن لهذا التوجه بأثار سلبية بالغة الخطورة على الإقتصاد وعلى حياة السوريين ستظهر آثاره القاتلة لاحقاً، قد نعتقد أن تجارة العقارات تساهم في توطين كتل نقدية هائلة الحجم داخل البلاد ومنع تسربها نحو الخارج، وتساهم أيضاً في توطين كتلة نقدية ضخمة بالعملات العالمية نتيجة حصر حالة شراء منزل جديد وفق الأسعار الحالية بالطبقات التي بقيت خارج حالة الفقر المدقع نتيجة وجود نشاط اقتصادي سابق لها، أو نتيجة نشاط إقتصادي لاحق مرتبط بظروف الأزمة السورية، أو بالكتلة الشعبية التي نجت من المجزرة الاقتصادية السورية بسبب وجود أفرادها خارج البلاد وهم يملكون مدخرات عمرهم التي تكفي لشراء منزل واحد في أغلب الحالات.
هذا التوجه الذي يفسر منطقياً استمرار الاستثمار في عمليات إنتاج الأبنية السكنية يواجه تحديات مستقبلية كبيرة لأنه توجه أعمى لا يراعي القضايا البيئة والتحديات المستقبلية التي لاتواجه السوريين فقط بل تواجه سكان الكرة الأرضية بأسرها.
اقرأ أيضاً: ما هو المال وماسبب وجوده؟ – أيهم محمود
لنتجاوز حالياً مسألة حاجتنا الحرجة كسوريين إلى ضخ أموالنا في استثمارات صناعية وزراعية هي الشرط الوحيد لاستمرار بقائنا على قيد الوجود وعدم وصولنا إلى انهيار إنساني وحضاري، سنعود إلى هذه النقطة في نهاية المقال لكن الآن لنركز على جوانب أهم في إدارة مسائل الطاقة اللازمة لتشغيل الأبنية التي تتزايد مع تزايد ارتفاعها، والتي تستهلك أيضاّ في بعض المدن مساحات هائلة من الأراضي الزراعية الخصبة التي تتوفر فيها المياه.
كلنا يعلم المعاناة اليومية المرتبطة بنقص التدفئة أو التكييف في منازلنا نتيجة أزمة المشتقات النفطية وأزمة الكهرباء الحالية، إضافةً إلى أزمة ضخ المياه المرتبطة بالتغذية الكهربائية، هذه الأزمات ليست مؤقتة متعلقة بظروف بلدنا الحالية بل هي اتجاه عالمي حتمي نتيجة ازدياد عدد السكان وتغير متطلبات حياتهم نحو اتجاهات تتطلب المزيد من الطاقة، على الرغم من تراجع احتياطيات مصادرها التقليدية وعدم قدرة مصادرها المتجددة على تلبية مستوى استهلاك مرتفع يماثل مستويات الاستهلاك السابقة التي اعتاد البشر عليها.
لكي نوضح مانريد قوله هنا بكلام بسيط بعيداً عن المسائل العلمية المعقدة نقول أن هذه المنازل التي تبدو اليوم لنا رائعة ستتحول لاحقاً إلى مقابر حقيقية لكل أحلامنا وأمانينا، فالمنزل عبر تاريخ البشرية الطويل هو مرادف الأمان الذي يستطيع توفيره للفرد أو للأسرة من أخطار الطبيعة، مازالت أجسادنا البشرية محكومة بضرورات طبيعية بسيطة وبالتالي هذه المنازل التي لم يلتزم معظمها بمواصفات العزل الحراري التي أصبحت مؤخرا معياراً إلزامياً أثناء ترخيص الأبنية والتي يتجاهلها معظم المقاولين من أجل تخفيض كلفة الإنشاء وتحقيق ربح أعلى في تجارة البناء.
اقرأ أيضاً: تمييز العاصمة .. المركزية السلبية المفرطة – أيهم محمود
هذه المنازل في حال تفاقم أزمات الطاقة العالمية لن تستطيع حماية أجسادنا من تقلبات حرارة كوكب الأرض وستصبح ارتفاعاتها المتزايدة عائقا لنا في الوصول إليها وفي رفع حاجاتنا اليومية إلى أماكن تواجدنا فيها.
هناك مدن كثيرة عبر التاريخ نزور أوابدها الأن هجرها سكانها لأنها لم تعد تصلح للحياة، مازالت حجارتها باقية حتى الآن لكن الحجارة لاتكفي وحدها لحماية أجسادنا في حال عدم توفر مصادر الطاقة ومصادر الغذاء ومصادر المياه، نحن محكومون بضرورات الحياة البسيطة لكن الغرور الإنساني يدفعنا إلى إنكار هذا الأمر، هذه الأبنية قاتلة لأنها تساهم في تعطيل استثمار السوريبن في قضايا أكثر إلحاحا وأكثر أهمية.
هذه المنازل تقضي في عدة مدن على أراضي زراعية خصبة ضرورية لاستمرار حياتنا، هذه المنازل شرهة للطاقة يقتنيها الناس على أمل إدخار أموالهم، وعلى أمل تحسن حالة الطاقة في كوكب الأرض، هذين الأملين للأسف الشديد مجرد أوهام سيكتشف زيفها لاحقاً المتضررون منها، استمرار نشاط البناء السكني دون وجود نشاط صناعي موازي، ودون البحث عن مصادر طاقة كافية لإدارة هذه الأبنية، يعني أنا نبني مقابر جماعية ستصبح مهجورة بعد مدة ليست بالطويلة وبالتالي لن تملك لاحقاً أي قيمة اقتصادية، أي أننا أخرجنا كتلة هائلة من أموالنا وهي المعادل الرمزي لجهدنا الإنساني خارج البلاد بطريقة غير مباشرة عبر استيراد الكثير من متطلبات إنشاء الأبنية وتشغيلها بما أننا لا نصنع عملياً معظمها، استمرار البناء بهذه الطريقه هو نزيف آخر يُضاف إلى نزيفنا اليومي المستمر ستظهر نتائجه الكارثية لاحقاً.
قد يبدو للبعض أن بناء منزل في قريته من المواد الطبيعية المتوفرة حوله مثل الطين والحجارة ابتعاد عن الحضارة وعن متطلبات الرفاهية الحديثة، لكن هذا البناء في الواقع هو أكثر كفاءةً من معظم الأبنية الحديثة الحالية، وهو أيضاً أكثر دعماً للرفاهية الحقيقية ولضرورات استمرار الحياة، هذه الفكرة تحتاج إلى مقالة طويلة لاحقة لا يتسع هذا النص لها الآن.
اقرأ أيضاً: أوهام الإنجازات العظيمة .. سِجن الحكومات – أيهم محمود