الرئيسيةرأي وتحليل

الفساد ومماليك العصر الحديث – أيهم محمود

الفساد والترف وانخفاض مقدار العمل والإنتاج عوامل تسبب انهيار الدولة

يحدد ابن خلدون في مقدمته مراحل تطور الدولة وعوامل سقوطها، الفساد والترف وانخفاض مقدار العمل والإنتاج، كعوامل تسبب انهيارها، يتحدث عن تَفرّغ النخب الحاكمة لمغانمها وملذاتها وحاجتها إلى قوى تحمي تفرغها هذا.

سناك سوري-أيهم محمود

نعود هنا إلى تاريخ منطقتنا عبر حكاية المماليك، من بداية استقدامهم، إلى انتزاعهم حكم المنطقة لقرون عدة، ثم نتحدث بعدها عن نوع آخر من المماليك في عصرنا الحديث، مماليك الفساد، يوجد تشابهٌ واضح في آلية استخدام المماليك في القرون السابقة واستخدام الفاسدين في بعض دول المنطقة حالياً لتدعيم سيطرة الأفراد، فهل ستتشابه نهايات الأفراد والدول بين الماضي والحاضر.

تم استخدام المماليك من قبل الخلفاء العباسيين كأطواق حماية لهم ضد احتمالات الانقلاب عليهم، المماليك: عبيدٌ بيض اللون، من أصولٍ تركية بشكلٍ عام، تم شراؤهم من أسواق النخاسة، أو سبيهم، لاستخدامهم في حماية مُلك الخلفاء، لسببين أساسيين، أولهما قدرتهم المميزة على القتال، والثاني استخدامهم كعامل توازنٍ سياسي بين نفوذ الفرس ونفوذ العرب، كلا النفوذين هددا بقاء حكم الخلفاء، وهددا أيضاً بحدوث انقلابٍ عليهم، لذلك استعانوا بالعنصر التركي لإحداث توازنٍ بين القوى المتصارعة، معتقدين أن هذا السلوك سيثبت حكمهم، النتيجة نعرفها جميعاً، لقد أصبح الخلفاء نتيجةً لذلك مجرد هياكل فارغة، قبل أن يَمل المماليك من وجودهم، ويعلنوا سيطرتهم المباشرة على الحكم، دون الاضطرار إلى استخدام الخليفة كغطاءٍ شرعيٍ لهم.

إقرأ أيضاً: تهنئة قلبية صادقة للدب السوري في عيد ميلاد انقراضه – أيهم محمود

ما حك جلدك مثل ظفرك

لقد أراد الخلفاء عدم إشراك الآخرين بالحكم، خافوا على انفرادهم بالسلطة، خشيوا ذهاب ملذاتهم، وخشيوا أيضاً القتال والتضحية من أجل الدفاع عنها، هذا ما يذكره ابن خلدون في عوامل انهيار الدول، ظنوا أن إحداث توازنٍ ما بين القوى المتصارعة على النفوذ قد يحميهم من نهايتهم المحتومة، لكن من فقد عوامل القوة الذاتية لا بد أن يُصبح رهينة القوى التي تدّعي حمايته، وما هي إلا أفاعي تتربص به إلى أن تحين اللحظة المناسبة للإنقضاض عليه، لا يتعلم الإنسان دروسه أبداً، لو شاركوا الناس في مواردهم لعاشوا وعاش غيرهم أيضاً، لكنه الطمع البشري، من أراد كل شيء، لن يبقى له أي شيء، وهذا ما حدث للخلفاء العباسيين حين استعانوا بالمماليك الذين اختُطِفوا من أهلهم ومناطقهم لحماية فئةٍ أرادت ابتلاع العالم كله لو استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

ماذا عن مماليك العصر الحديث؟ وأين يكمن التشابه بين مماليك الأمس ومماليك اليوم من الفاسدين؟.

إن كان مماليك الأمس قد خسروا حريتهم بالقوةِ والعنف، فإن مماليك اليوم قد باعوا حريتهم وقبضوا ثمناً بخساً لها، مماليكُ اليوم من الفاسدين يُدركون جيداً عبوديتهم، لكنهم يوازنون بين كرامتهم، وبين لَذاتهم التي تأتي من سماح خلفاء هذا العصر ببعض الفساد مقابل الولاء، ومقابل استعداد هؤلاء لقتل الآخرين من أجل استمرار حصولهم على فُتاتهم الذي يكبر أو يصغر وفقاً لأهمية عملهم.

هم يدركون جيداً أنه سيتم التضحية ببعضهم أحياناً، كما كانت الحروب والمزاج الشخصي للحكام يقتل بعض مماليك القرون الماضية، لكن أيضاً، وكما كانت كتلة المماليك السابقين تنموا لتصبح كياناً واحداً مسيطراً قادراً على الاستحواذ على الكعكة كلها بدل الاكتفاء بفتاتها، كذلك هم مماليك العصر الحديث من الفاسدين الذين يدركون قوتهم، وقوة اتحادهم وتعاونهم، بشكلٍ متزايد، وهذا ما مكنهم من اختطاف بعض دول المنطقة وإعلان وجههم الصريح بشكلٍ متزايد، لا استبعد قدرتهم على الإنقلاب واختطاف الحكم المباشر، وتشكيل إمارات ومناطق نفوذ واسعة بعد تفتت الدول التي استعانت بهم، حدودياً، أو شعبياً إن حافظت الأمم المتحدة الحالية على وهم تلك الخطوط المصطنعة التي تفصل بين أراضي الدول.

سمة هذا العصر الحديث انهيار عصبية الدول كما وصفها ابن خلدون، وانتشار الترف الذي يمنع الدول من استخدام جيوشها النظامية، لذلك رأينا أمريكا وهي تستعين بنظام المرتزقة في حروبٍ كثيرة مثل حرب العراق، رأينا أيضاً استخدام روسيا للمرتزقة في حروبها الأخيرة، تَدَخل الدول الأوروبية في أفريقيا، الحرب الليبية، الحرب في سوريا التي استقطبت مرتزقة من مناطق واسعة من العالم تحت شعارات دينية أو سياسية، واليوم اليمن، حيث توجد مؤشرات أولية على طلب المزيد من المرتزقة لاستمرار جحيم الحرب الدائرة هناك.

كل هؤلاء، مماليكٌ أيضاً، لكنهم يعيشون في عصرنا الحالي، يتم إفقارهم أولاً، ثم دفعهم لاحقاً للموت في ساحات القتال، الإفقار أقل تكلفة من السبي، ولايسبب أيضاً دعاية أخلاقية سيئة للدول التي تستخدمه، لكن العبودية والاستعباد في الحالتين واحدة.

نشهد اليوم إعلان الفساد عن وجهه الحقيقي كقوة لها الحق في المشاركة في الحكم وفي اقتسام الغنائم، لم يعد الفساد يخجل من الظهور العلني، بل أصبحت له أذرعه الإعلامية والثقافية التي تبرر وجوده، بل تفرض وجوده كضرورة لا غنى عنها في الأزمات وفي أيام السلم أيضاً، فهل يسود مماليك الفساد قروناً كما فعل أسلافهم من مماليك الرق حتى سلموا المنطقة بأكملها للدولة العثمانية؟ أم يكفي بضع عقود أو بضع سنوات فقط لتسليم أجزاء مهمة من منطقتنا إلى العثمانيين الجدد، أو إلى احتلالاتٍ أخرى، أو إلى خليط من الاحتلالات؟.

من لا يقرأ جيداً التاريخ، ولا يتعلم دروسه منه، يكرره مراراً إلى أن يتعلم ويفهم.

اقرأ أيضاً: الهروب الكبير إلى الأمام -أيهم محمود 

زر الذهاب إلى الأعلى