الرئيسيةرأي وتحليل

الفاتيكان العلمي.. القرون الوسطى الجديدة بألوان زاهية – أيهم محمود

جوهر عملية الإخضاع يقوم على مبدأ: لا تبذل جهداً بالبحث نحن نبحث عنك

قد يبدو للبعض استحالة وجود روابط ممكنة بين المظاهر العلمية الحالية، وبين محاكم التفتيش التي سادت في القرون الوسطى، لكن بعض التفاصيل الصغيرة تُخبرنا بعكس ذلك، العلم والعقل العلمي منهج تفكير ما زال يثير الكثير من القلق والمخاوف، في أنظمة الاستقرار الاجتماعية، فالفردية في العلم تعمل في اتجاه يعاكس بالضرورة، آليات تشكيل الجماعات البشرية، العلمُ دعوةٌ دائمة إلى الشك والهدم من أجل السماح ببناء الجديد، وهذا ما لا تطيقه أنظمة الاستقرار البشرية سواء كانت دولاً أو أحزاباً سياسية أو حتى جامعات مستقرة ومراكز بحث علمي مرموقة.

سناك سوري-أيهم محمود

عرّفت مقالة ويكيبيديا محاكم التفتيش بأنها «سلطة قضائية كنسية استثنائية»، مهمتها اكتشاف مخالفي الكنيسة ومعاقبتهم، وضعها البابا غريغوري التاسع لقمع جرائم البدع والردة وأعمال السحر، في جميع أنحاء العالم المسيحي من القرن الثالث عشر إلى السادس عشر.

نقف في هذا التعريف عند كلماتٍ مفتاحية، “سلطة، استثنائية، معاقبة، جرائم البدع والردة”، هذه الكلمات وغيرها تمثل الناظم لسلوك بشري نمطي، بغض النظر عن شكل تحولاته الخارجية وأنماط ظهوره المختلفة، هي حالة البحث عن المخالفين وقمعهم بالقوة والعنف والبطش، لمجرد قولهم آراء تخالف الاعتقاد السائد في حقبة زمنية ما.

لا يختلف الأمر إن كان الخلاف دينياً أو سياسياً أو حتى علمياً، مثل الخلاف حول لقاح أو حول مسألة انتشار فيروس طبيعي، العقل العلمي الحقيقي يقول بأن الأفكار تُجابه بالتجارب العلمية والأفكار الأخرى، لا بالقمع والسجن والنبذ والإقصاء، وفق هذه الصورة وبالبحث جيداً في تصرفات الكثير من المؤسسات والأفراد، حول العالم يمكننا أن نرى بوضوح أذرع الفاتيكان العلمي الذي لا يقل خطراً على الصحة العقلية البشرية، عن الفاتيكان الديني السابق الذي أحرق أعداداً مختلفٌ عليها من النساء بتهمة السحر، لكننا اليوم نعرف أنهن مُتن تعذيباً وحرقاً لأسباب تافهة لا قيمة لها إنسانياً وعلمياً، الدعوات المتزايدة إلى معاقبة وسجن وإسكات كل من لا يؤمن بفكرة علمية، حالية قد ينقضها الزمن القريب هي سلوك بشري نمطي لا يمكن تصنيفه بأنه “علمي” لأنه يسير في عكس مساره الطبيعي.

اقرأ أيضاً: المواطن السوري الاستثنائي – أيهم محمود

الملاحظة الثانية، والتي لا تقل خطورة وأهمية عن الكلمات المفتاحية التي التقطناها خلال النص القصير السابق، تتمحور حول ظهور الكهنة في أي نظام اجتماعي، يهدف إلى تجميع الأفراد تحت السيطرة الصارمة وهم في حالة خضوع واستكانة.

حفلت البشرية بصور متعددة لأنماط الكهنة، بدءاً من ساحر القبيلة الذي يطرد الأرواح الشريرة، ويعاقب بالأوبئة والموت أحياناً، مروراً بكهنة الأديان الموكلين بالتوسط بين البشر وبين الآلهة، نذكر أيضا كهنة الأحزاب السياسية الذي حصروا نهوض الأمم أو خلاصها بوجودهم فيها، وأخيراً كهنة العلم الذين تنتشر مقالات مآثرهم العلمية على صفحات الجرائد، وأدوات إعلام السلطات الزمنية القائمة في تحالفٍ رسمي، يُشبه كثيراً تحالف السلطات الزمنية مع كهنة الأديان، وهياكلها التنظيمة من أجل ضبط سلوك الجماعات البشرية، ومنع تأثيرات الفردانية الإنسانية من التشكيك بمشروعية الخيوط التي تربط وتجمع التكتلات البشرية.

لقد شهدنا مآثر علماء الطاقة البديلة وتضخيم إنجازاتهم العلمية، لدرجة فصلها عن الممكن البشري وتحويلها إلى جملة مختصرة “لا تقلقوا من فكرة نضوب النفط .. الأمور تحت السيطرة!”، دون هذا الجهاز العلمي المتعاون مع السلطات الحاكمة، لن يستسلم الكثير من البشر للأمان الزائف الموجود في التكتلات الإنسانية، دون التخدير الدائم لن تتمكن المنظومات الحاكمة من لجم اندفاعات العقل البشري، للبحث عن مخارج محتملة لمأزقه الوجودي، تاريخ العلم والمعرفة كان أيضاً تاريخ البقاء وتاريخ البحث عن أسبابه.

صورة كهنة العلم وهم يمشون إلى جانب كهنة السياسة تمنح الأمان للبشر، “هناك من يهتم بنا لذلك لنلتفت نحن إلى الاستمتاع بحياتنا”، دون القلق الوجودي الدائم تتسطح العقول البشرية، وتدخل في حالة الإدمان على ما يتوفر أمامها فقط دون بذل الجهد والبحث وهذا جوهر عملية السيطرة والإخضاع.

يدفع العلماء الحقيقيون دائماً الثمن غالياً، العلم آلية استيقاظ دائمة، استيقاظٌ مستمرٌ لا يهدأ تُوقده نسبة ضئيلة ممن يمتلكون هذه القدرة في المجتمعات البشرية، لا تستطيع المجتعمات وأدهم كلياً لأنها تعي حاجتها العميقة لوجودهم لذلك يتم إنشاء منظومات الاحتواء، التي تحاول ضبط حركتهم، ربما يساهم هذا الضبط في حالات محددة في تأمين الاستقرار اللازم لأي نشاط بشري، لكنه عادة ما ينزلق سريعاً إلى المبالغة في تطبيقه ويتحول إلى قوة إعاقة خطيرة، نقطة البداية تكمن في رؤية القرون الوسطى ذات الألوان الزاهية التي تحيط بنا، ربما ليست قبيحة كما الرمادية منها لكنها لا تقل خطورةً عنها.

اقرأ أيضاً: التعذيب في القوانين الشعبية – أيهم محمود 

زر الذهاب إلى الأعلى