جيل الشباب في الحرب السورية: شهود على زواج في وادي الرقاد
قصارى القول إن المرء هنا في هذه القرية قد يرى أناساً محترمين من كل الأنواع وخاصة من جيل الشباب الذي عاش كل لحظة في الحرب السورية والكثير مما قبلها. فيما عدا رجال الدين والجيل الرابع لشبيبة هذه الحرب ممن خلقتهم أجهزة المخابرات الوطنية والأجنبية طوال سنين الاقتتال التي لازلنا نعيشها.
فمن الجميل أن ترتجي في قرية بدويّة في الجولان غرقت في الدم لسنوات حتى ذابت فيها القيم والأخلاق عن شاب ولا يشعر بسن اليأس.
سناك سوري – شاهر جوهر
لذا فغاية القول أنّي أنا الثلاثيني لم أوفّق حتى الآن بأكثر من هذا الصديق. فهو رجل في الأربعين. ذو وجه مدوّر أسمر جميل. ولا يذكرني سوى برفاق المسيح الأوائل. إذ يعرف متى يلوذ بالصمت ومتى ينبري للإجابة مثل قديّس حقيقي في عالمٍ كافر. لكنه ليس مثلهم يطوف في البلاد قاطعاً مئات الأميال على ساقيه باحثاً عن وصيّة.
أحب ذكر قصته دائماً حين رواها وقت دعوته لي في ذاك اليوم. حينها كان الجو صاحٍ جميل. و الوقت غداءً و المائدة على ازدحامها لكنها جدّ لطيفة . حيث عَلَت رائحة اللحم المطبوخ التلال المحيطة ببيته . و أن اليد التي عنيت في صنع هذا الطعام أضفت عليه قيمة تفوق كل تقدير بين البساطة وطيب النفس .
استقبلني وكان ما لم أريد. حيث ردد عبارة قريتي المعتادة: «بلا مؤاخذة حماتك تحبك أستاذ جوهر. بلا مؤاخذة إياك أن تفكر في الرفض فعيار الشبعان عند البدوي أربعين لقمة».
اقرأ أيضاً: بعد كارثة الزلزال .. مجلس الشعب يحيي ذكرى إضراب الجولان
حكمة “عبد الله” الملقب “أبو محمد” تلك والمصبغة دوماً بعبارة “بلا مؤاخذة” والتي يكررها في اليوم مئات المرات تخبرني لما نحن جوعى دوماً ولا نشبع. فالكل هنا تغيّر. وإن كان هناك عبارة لها معنى أكثر من تلك الكلمة أستطيع أن أقول أنّ الكل هنا “توحّش”. لكن هذا “الكرم المتوحش” في أوداج هذا الصديق والبادية بخطوط غليظة على جبينه وصدغيه تثبت أن القيم السورية الحقيقية لا تتبدل أو تتحول بفعل حرب صنعها (صبيان زعران).
انتهينا وكان حديثة غارقاً بالانفعال على توحش الواقع والذي لم أرَ من مسلك انفعالاته سوى جانبه الطيب. فقد تحدث مطوّلاً أمامنا عن تجربته القاسية في المعتقل ووجدته متأثراً في سجنه أشد التأثر. فلقد تركت الزنزانة في نفسه طابعاً فظيعاً. فمن هم مثله كثر في بلادي. فقد خسر في هذه الحرب ولدين وزوجته بطريقة وحشية لا أرغب في ذكرها لبشاعتها. وأعتقد أن لا أحد هنا يرغب في تذكرها لقساوتها.
وربما ومواساة لحزنه تم اعتقاله بتهم شتى من قبل فصيل عسكري يسيطر على المنطقة. وحين أكلت الزنزانة من جسده كثيراً من صحته في شهور السجن تم الافراج عنه. و تقبيله من قبل السجّانين مرددين تحت أذنه عبارات التأسف: «نبارك لك براءتك يا شيخ. سوء تفاهم يحدث في كل زمان وفي كل مكان..».
اقرأ أيضاً: الصليب الأحمر يعيد شاباً وفتاة من دمشق إلى الجولان المحتل
لم يكونوا على دراية كافية أن نيله لبراءته تلك جاء على حساب صحته. ليسارع ذويه ليحملوه إلى العاصمة للعلاج. وفي الطريق تم اعتقاله مجدداً على إحدى الحواجز العسكرية من قبل فصيل رديف للحكومة. وبعد شهرين من التحقيق المرّ صافحه المحقق وسلّمه ورقة الإخلاء : «نشكر لك تفهمك رفيق . أنت حر».
أتم حديثه. ورغبة الحريّة تلمع في عيناه. ولمّا كنت الشخص الوحيد الذي يتعاطف أشد العطف لآلامه التصقت نظراته لي مُنِمّةً عن احترام. ثم وقف بعد ساعة من الحديث المتواصل أمام الجميع. و كمن لعن الحرب. و رغب في أن يولد من جديد: «بلا مؤاخذة يا شباب لقد دعوتكم اليوم لتكونوا شهوداً على زواجي الجديد».
كما أن هناك جيل الشباب هذا ظلمتهم ولعنتهم الظروف في الحرب السورية. وخرّشت أجسادهم سياط الاستبداد و أعقاب البنادق في السجون. هناك دائماً في بلادنا ولادة جديدة. وهناك دائماً سوريون حقيقيون لديهم أمل بإكمال حياتهم. وهنا وبجدارة أستطيع أن أسمي هذا الصديق بـ “المواطن البطل”.