التحولات الثقافية في عصر التشبيك الرقمي- أيهم محمود

الصراع بين المفاهيم المتناقضة مستمر وصحي في عالمٍ يتجه بفعل الضرورة نحو المزيد من الرقمنة
سناك سوري- أيهم محمود
سخرت الصحف الورقية من الانترنت في بداية ظهورها، واليوم أصبحت الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تحديداً منجماً للمعلومات والمقالات، وأصبحت الصحف الالكترونية هي الأهم لذلك سارعت كبرى الكيانات الإعلامية إلى حجز مواقعها في الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي ولو كانت خطوات بعضها متأخرة جداً.
هذه السخرية ذاتها نجدها لدى بعض المثقفين الناطقين باللغة العربية في حديثهم عن ما يجري حولهم في العالم الرقمي، حيث تسبب مواقع التواصل الاجتماعي ضغطاً شديداً للنخب المتعالية على الثقافة الشعبية التي بدأت تتضخم وتنتشر أفقياً وشاقولياً مستهلكةً أجزاءً كبيرة من الحجم الذي كانت تشغله وتحتكره الثقافة التقليدية، ويتيح النشر الرقمي للجميع فرصة المحاولة ويفرز المحاولات ويصقلها بالانتقادات المباشرة من القراء وهذا ما يعرف باسم التغذية المرتدة.
في المنظومة التقليدية كان على المثقف أو الكاتب المستجد المرور بمراحل تصفية حكومية متعددة قبل السماح له بالوصول إلى أدوات الإعلام، التصفية هذه لم تكن بمعظمها من أجل انتخاب الأفضل والأجدر فنحن نعيش في عوالم مضطربة ثقافياً وسياسياً وعلى المثقف الملتزم أن يسير في خطوط محددة تشبه المقامات الموسيقية العربية التي لا يمكن الخروج عنها وتشبه أيضاً البحور الشعرية التي بقيت طويلاً الناظم الوحيد للأعمال الشعرية حتى أتى من لديه الشجاعة على اختراقها والخروج من أسرها.
اقرأ أيضاً مواقع التواصل التي هاجمها مسؤولون ونواب تنقذ الحكومة
في مقابل مثقف السلطة -السلطة الدينية أو السياسية أو الاقتصادية – نجد مثقف المعارضة، وفي كلا الحالتين يحتاج المبدع كياناً يدعمه من أجل الانتشار والدعاية له، لذلك الثقافة تعني التكتل وتعني أيضاً أن يعبر عن رأي فئة الداعمين له مع تفهمهم لبعض احتياجاته النفسية بترك هامش له يمرر فيه بعض مقولاته، في البداية ظن هؤلاء كما ظنت الصحف الكبرى أن الانترنت هي مكان للثرثرة ومكان للثقافة الشعبية الرثة وكانت صدمتهم كبيرة مع تراجع دورهم الاجتماعي والسياسي وأهميتهم بالنسبة للقوى الحاكمة مجتمعياً أو سياسياً، وهذا يعني لهم تراجعاً خطيراً في المال والنفوذ إضافة إلى تراجع المساحة التي يغطونها ثقافياً بوجود عدد هائل من المساحات الإعلامية المتناهية في الصغر تعمل كجيش هائل من النمل تبدو وحداته المفردة صغيرة وتافهة لكن اجتماع فعلها المتبادل خطير ولا يمكن ردعه أو مقاومته.
حاولت الثقافة التقليدية ومثل أي كائن حي مقاومة الموت ومقاومة التراجع في أهميتها لكن معركتها كانت خاسرة والدليل على ذلك بسيط وهو انخراط الحكومات السياسية والجماعات الأخرى الحاكمة في الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وتأسيس صفحات تتواصل عبرها بشكلٍ مباشر مع الناس دون المرور عبر أجهزة الثقافة التقليدية.
تفرض الاختراعات البشرية دائماً تغيرات جذرية في السلوك البشري وفي اللغة اليومية المتداولة، الثقافة البشرية متغيرة مع تغير الأدوات التي يخترعها الإنسان لحاجةٍ ما مباشرة، ثم تجد لها في مراحل لاحقة استخدامات متعددة أخرى وتجد عقولاً تطوعها في صورٍ لم تخطر في عقل مبدعها، هو العقل الجمعي في مواجهة العقول المفردة المعزولة، ويساعد التشبيك الرقمي في إطلاق عملية تبادل سريعة ومعقدة بين العقول بحيث تعمل كعقل مشترك واحد مثل جيش النمل الذي ذكرناه سابقاً مفكك الجهود متحد الهدف، تنطلق فكرة من أحد الأفراد فيتلقفها الآخر بصياغةٍ جديدةٍ أو يحملها بمعاني مستحدثة وخلال دقائق أو ساعات تدور في كامل الكرة الأرضية وتنصقل عبر المحاولات المستمرة للأفراد الذين لا يمكن لأحد التنبؤ بعددهم وباتجاهاتهم الثقافية والمعرفية.
اقرأ أيضاً طوبى لمن لم يفقد إنسانيته في هذه الحرب .. أيهم محمود
لا يمكن لأي متعالي عن هذه الآلية أن يقاومها فقوتها هائلة أكبر من قوته الفردية بكثير، ولا يمكنه أيضاً الانخراط فيها فبنيته القائمة على الفردانية والبحث عن النفوذ والتميز لا تسمح له بالانخراط في الأفعال الجماعية التي يتحول فيها إلى فردٍ ناشط له رأي يمكن تثقيله قليلاً لكن لا يمكن على الإطلاق منحه صفة القائد لمجتمعه والمغير الأكيد فيه.
صورة المثقف التي صاغها القرن الماضي تتعرض للضربات المتلاحقة وتكاد تهوي لذلك نجد الكثير ممن اختاروا العزلة لأنهم حقاً لا يعرفون ما يجري حولهم وكيف يوقفون هذا المد الخطر الذي يعتقدون أنه سيدمر المجتمعات وهم على حق في هذا لكن دمار القديم لا يعني أبداً عدم ولادة جديدٍ أفضل منه كما فعلت الحياة سابقاً وتفعل هذا دوماً عبر مسار التاريخ، القسم الآخر قرر أن يكون مرناً أكثر فانضم إلى العالم الرقمي محاولاً إعادة صياغته ليتوافق مع الشكل القديم الذي اعتاد عليه وهذا هو الشكل المتأفف باستمرار من تفاهة العالم الذي انخرط فيه، القسم الثالث هو من طوّع لغته لتناسب قواعد العالم الجديد، وهم أيضاً من اكتشفوا لغتهم وممكناتهم في هذا العالم وكان يعتقد سابقاً أنه لا يملك منها شيئاً، نجد في هذه الفئة خليطاً من الأعمار المختلفة ولا نستغرب حين نرى رجلاً في السبعين من عمره يناور ببراعة فائقة في منصات التواصل الاجتماعي ويستطيع إيصال فكرته إلى أكبر عدد ممكن من متابعيه في حين يعجز شاب ثلاثيني عن فعل ذلك ويتهم المنصات الاجتماعية بنشر التفاهة والابتذال لأنه لم يجد فيها نموذج الطليعة الواعية والشعب الذي يردد أقوالها باستمرار ويقلدها في كل حركاتها.
في العالم الرقمي توجد تجربة الند للند وهو أمرٌ ثقيلٌ على النفوس الشرقية بشكل عام وعلى بنية الثقافة العربية التقليدية بوجهٍ خاص، ما يصنعه المثقفون الرقميون هو إعادة صياغةٍ حقيقية ٍ لمفهوم الثقافة، وما بدا أخرقاً من وجهة نظر الصحافة الورقية والتلفزيونية التقليدية ينافس اليوم أعتى مؤسساتها وأكبرها تمويلاً، لذلك يجب على الجميع إجراء حسابات دقيقة قبل الحكم على العمليات الرقمية والفضاءات الافتراضية.
لن ينتهي الصراع بين المفاهيم المتناقضة في وقتٍ قريب، هو صراعٌ مستمرٌ وصحي في عالمٍ يتجه بفعل الضرورة نحو المزيد من الرقمنة لحياتنا اليومية والتي تتطلب منا عدم الانعزال عنها بل الإسراع في التأقلم مع متطلبات حركة سير العالم الجديد.
اقرأ أيضاً سوريا.. العودة للحديث عن ترشيد استخدام الانترنت (رشدها لتدوم)