الرئيسيةتقاريرمختارات

هل تشيخ المقاهي أيضا.. نظرة على المقاهي الثقافية السورية

بين دمشق وحلب واللاذقية هذا هو الفرق بين المقهى الثقافي والمقهى الذي يجتمع فيه المثقفون

شكلت المقاهي الثقافية جزءاً أساسيا من حياة السوريين، ولعبت دوراً في الحركة الأدبية مع بدايات القرن الماضي، على الرغم من أنها بدأت كتجمعات سياسية، الا أنها سرعان ما تحولت إلى ملتقيات أدبية وفكرية، وتلك إحدى حسنات السياسة القليلة.

سناك سوري – عمرو مجدح

في المرحلة التي سبقت المقاهي، كانت الصالونات الأدبية الأكثر انتشاراً، الظاهرة التي بدأت في “باريس” وانتقلت إلى “القاهرة” ومنها إلى “سوريا”، واللافت أن غالبيتها كانت نسائية، مثل صالون “ماريانا مراش” في “حلب”، و”ماري عجمي” و”زهراء العابد” و”ثريا الحافظ” في “دمشق”.

ومن أشهر المقاهي الثقافية، التي ذاع صيتها في الستينات، مقهى “البرازيل” و”الكمال” و”الهافانا” الذي تأسس عام 1945 وما يزال يتوسط “دمشق” إلى يومنا هذا، وما أن تمر به وتراه يكاد أن يكون خاليا إلا من بعض كبار السن، حتى تتساءل هل تشيخ المقاهي مثلنا؟، هل يخف وهجها ويقل زوارها مع تقدمها بالعمر، أليست كالآثار كلما زاد عمرها زادت قيمتها؟، تحدق في الوجوه العتيقة كأن هناك ارتباطا بينها وبين المكان، وذاك المسن الذي تسبقه عصاه نحو الطاولة، اعتاد الجلوس عليها منذ عقود.موقع سناك سوري.

ترى هل سيتراءى للمارة مثلي، “محمد الماغوط”، وهو يدخن سيجارته، و”مظفر النواب”، وهو يخط على الورق قصيدة هجاء ستعرف طريقها إلى الهروب من الرقابة، و”ممدوح عدوان” وهو يكشف خفايا “حيونة الإنسان”، وأصوات “محمد مهدي الجواهري” و”بدر شاكر السياب”، وصدى أشعارهم تعم المكان، و”نزار قباني” والمتمردة “غادة السمان”، التي قررت أن تقتحم مقهى كان حكراً على الرجال، ليصبح “هافانا دمشق” شاهدا على بداية قصتها مع “غسان كنفاني”.

اقرأ أيضا“دير الزور” مدينة المقاهي.. لمَّة الورق والنرد وحديث الخدمات بغياب العنصر “الأنثوي”

مقهى الهافانا من الداخل

مرحلة ازدهار

وبين الحنين إلى الأمس وواقع مقاهي الثقافة اليوم، يقول المهندس “أحمد كامل” لسناك سوري: «في التسعينيات شهدت العاصمة السورية، مرحلة ازدهار ثقافي كانت تضج بكافة أنواع الفنون، والأنشطة الأدبية والنخب الثقافية، حتى بداية الألفية الجديدة».

ارتاد “كامل” مجموعة من المقاهي في “دمشق”، مثل مقهى “نادي الصحفيين” و”الهافانا” و”الكمال” و”الروضة”، وقابل نخبة من المثقفين والأدباء ورجالات دولة، كان منهم من عاصر فترة الاستقلال.

تركت تلك الأماكن سحرها على المهندس الذي يصفها بأنها: «كانت ساحرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، المكان، الزمان، الشخوص، الإيقاع، كانت تشبه السحر، أخص بالذكر مقهى “القنديل” وهو ملك لعائلة الأديب الراحل “نجاة قصاب حسن”، إلا أنه تحول لاحقاً إلى شيء آخر بعيداً عن المجال الثقافي».

وعن الفجوة الثقافية بين الماضي والحاضر يقول، “كامل”: «هناك هوة لا يمكن الوصول لقاعها بين الماضي والحاضر الثقافي، حتى الحديث اليوم عن الثقافة يُعتبر ترفاً برجوازياً لا يمت للواقع بصلة، فالشارع السوري لم يعد يعنيه كثيراً الشأن الثقافي، لأن هموم الحياة وتحدياتها أكبر بكثير مما يتصوره الإنسان، لهذا فإن الشأن الثقافي أمام مخاطر كبيرة، يجب تداركها وإعادة الدور الثقافي الحيوي بأشكاله المتنوعة».

شكل جديد

في السنوات العشر الأخيرة ظهر شكل جديد من المقاهي الثقافية في “دمشق”، من حيث الديكور ووجود مكتبات وتعزيز الفعاليات الثقافية، مثل  مقهى” عالبال” و”زرياب” و”قهوة ع المفرق” لمؤسسها “ميشيل نصرالله”، وشريكه “مطيع أبو منذر”، وفي حديث مع سناك سوري يقول “نصرالله”، أن فكرة “قهوة ع المفرق” ولدت خلال الكتابة، حيث كانت القصص تبدأ وتنتهي لديه على طاولة إحدى المقاهي، إلى أن قرر أن يكون له مكانه ومقهاه الخاص، واختار أن يكون في دمشق القديمة، التي يقول عنها: «هناك علاقة خاصة بيني وبين الشام القديمة، ويعنيني أن يكون لي مكان فيها».

ويضيف: «عندما أخذت المكان كنت أريد شيئاً يشبهني ويشبه “دمشق” القديمة، أُشجع من خلاله على القراءة، لهذا صممت مكتبة في المقهى أدعوها ” قلب وروح المكان”، كما أبحث على ما يساعد في خلق بيئة مهيأة للكتابة والدراسة حتى من خلال الموسيقى، أحب أن أكون مؤثراً في حياة رواد المكان».

جانب من “قهوة ع المفرق” – دمشق

يتابع “نصرالله” حديثه وهو يَصف مصطلح “مقهى ثقافي”، بغير الدقيق، متسائلا ما هو تعريف المقهى الثقافي؟، بالتأكيد كان موجوداً فيما مضى لكنه اليوم لا ينطبق على المقاهي الحالية، حتى العريقة منها، وأصبحنا نطلق وصف “الثقافي” على أي مقهى، ليس فيه شاشة تنقل المباريات أو لعب النرد والورق.موقع سناك سوريز

اقرأ أيضا في مقهى “الهيبة” من لايملك ثمن الفاتورة يقولون له: لا تهكلوه للهم

ما تزال ذاكرة “محمد عدنان حريتاني”، تحتفظ بكثير من تفاصيل مدينة “حلب” في السبعينيات من القرن الماضي، ويبوح قائلا لـ سناك سوري : «نحن نعيش على ذكرياتنا نجترها اجتراراً ولولاها ما بقينا أحياء، أنا من مواليد “حلب” القديمة، كانت أغلب المقاهي في متناول يدي لكنني لم أكن من هواتها بل كانت نقطة التقاء مع الأصدقاء».

عن مقاهي مدينة الشهباء، التي عرفها وهو شاب يقول: «كان هناك مقهى “ستراند” في منطقة “العزيزية”، لكنه لم يكن وجهة المثقفين بل نخبة من الشباب والفتيات المنفتحين، ملتقى المثقفين كان مقهى “الموعد” في أشهر شوارع “حلب” على ناصية شارع “بارون” يرتاده كتاب، رسامون، فنانون كذلك الحال مع مقهى “القصر” أيضاً».

حلب تختلف عن دمشق

يرى الصحافي “فراس جليلاتي”، أن الحركات الثقافية في مدينة “حلب”، تختلف عن “دمشق”، وأن رواد الصالونات الأدبية التي تقام في المنازل، كانوا يفوقون رواد المقاهي الثقافية وأرجع ذلك لعدة أسباب منها السياسية والاقتصادية.

خاض “جليلاتي” مع شركائه تجربة عصرية، لمقهى ثقافي في “حلب” عام 2011 أطلقوا عليه “أثر الفراشة”، وعن تلك التجربة يقول لـ سناك سوري: «دعنا نتأكد بداية أن المقهى الثقافي، يختلف عن المقهى الذي يجتمع فيه المثقفون فالمقهى الثقافي أشبه بمؤسسة ترعى الثقافة، وتقيم فعاليات وأنشطة، أما الفكرة موجودة لدينا منذ سنوات، وكنا نريد أن نعمل على مشروع يشبه “سوق عكاظ”، بشكل يتناسب مع العصر، وأن يكون مكانا لتبادل الشعر والثقافة، خصوصا بعد المعاناة التي واجهها شريكي المؤسس “ثائر مسلاتي”، في البحث عن منابر ونوادي ثقافية تدعم المواهب، فهو شاعر يبحث عن فرصة وكانت أغلب تجمعاتنا في محل يدعى “art river”، الذي يستقطب العديد من الكتاب والمثقفين».

اجواء احدى أمسيات مقهى “أثر الفراشة” – حلب

وعن رواد “أثر الفراشة” يقول: «هناك فئتان، فئة مثقفة ومهتمة ومتذوقة بطريقة احترافية وأكاديمية، وأخرى عبارة عن هواة موهوبين، وفي خلال عام واحد حقق المقهى انتشاراً كبيراً، وأصبح ملاذا لمثقفي حلب وكان يضج بالفعاليات الثقافية».

في العام ٢٠١٥ أُسدل الستار على “أثر الفراشة”، بعدما قاوم الحرب الشرسة على المدينة، وهو ما حدث مع عدد من المقاهي الثقافية مثل مقهى “جحا”، الذي ابتلعته الحرب ولم يعد له أثر يقول جليلاتي لـ سناك سوري: «كانت الحرب أقوى من أحلامنا بعد أن سرقت الصديقين المؤسسين “ثائر وباسل مسلاتي”، اللذان خسرا حياتهما عام ٢٠١٣ بقذيفة هاون على حي “شارع النيل” الحلبي، حينها استلمت إدارة المحل، وسعيت لاستمرار الأنشطة وتطويره، لكن فيما بعد ساءت الأوضاع وواجهنا موجة هجرة كبيرة من المدينة، وتأثر المقهى بغياب وهجرة وخسارة رواده، إلى أن غادرت أنا أيضا حلب في العام 2015».

أول مقهى ثقافي هو الهافانا

يقول الكاتب والصحافي “سجيع قرقماز”، أن أول مقهى ثقافي معروف في سوريا كلها هو “الهافانا” في “دمشق”، ويتذكر مدينة “حلب” التي درس فيها في المرحلة الجامعية، واقترب من مثقفيها في السبعينات.

يصف “قرقماز” بعض مقاهي مدينة “حلب” في ذاك الزمن قائلا: «هي مطاعم عادية أكثر منها ثقافية، كنت أجتمع مع الروائي “وليد إخلاصي” وكثير من الكتاب الحلبيين في فندق “السياحي”، كان في طابقه الأرضي كافيتريا وهو مطل على ساحة “سعد الله الجابري”، ومقهى “ستراند” كان على نفس الرصيف ، على بعد مائة متر لكنه كان مطعماً، ولم يكن مكان اجتماع مثقفين أو أدباء».

وتابع: «بالنسبة لي شخصيا كنت أفضل مقهى “البستان” في السبعينيات وهو قائم حتى يومنا هذا، كنت وقتها صحفياً مبتدئاً، لم تتعد كتاباتي أصابع اليد وكان كثير من رواده يهتمون بالمسرح والصحافة، لكن أيضا لم تكن تنطبق عليه صفات المقهى الثقافي».

أما عن مدينته اللاذقية يتذكر “قرقماز”، عاشق البحر الروائي “حنا مينه”، وهو يجلس في مكانه المفضل، بمطعم على البحر مؤكدا بأنه لم يكن مقهىً ثقافياً قائلا: «في الماضي لم يكن هناك مقاهي ثقافية في اللاذقية».

اقرأ أيضا خمّارة بابِ شرقيّ لأبي جورج.. السّاقي وإليه المُشتكى

فراس الى جانب مؤسسي ورواد “أثر الفراشة” – حلب

تجربة مختلفة في اللاذقية

«أعتقد أن تجربة المقاهي الثقافية في مدينة “اللاذقية”، مختلفة عن “دمشق” و”حلب”»، بهذه الكلمات بدأت “ندى علي” ابنة اللاذقية، حديثها لسناك سوري وأضافت: «قديما كان هناك مقهى “شناتا” (سابقا قبل تغير اسمه) أقيمت فيه عروض مسرحية، وغنت فيه السيدة “أم كلثوم”، ويحكى أن الرئيس “جمال عبد الناصر”، زاره بصحبتها بعد رحلتهما بالسفينة من مصر إلى مرفأ اللاذقية، كما غنى فيه “عبد الحليم حافظ”، إلا أنه لم يُستغل كمركز ثقافي لكنه حافظ نوعا ما على شكله القديم».

عن حال المقاهي في مدينة اللاذقية تقول: «تراجع عددها وأغلبها لا يعطي انطباعاً حقيقياً بالثقافة، فأجواء المكان تجدها مليئة بالدخان والأغنيات الشعبية ولعب الورق».

ترى “علي”، أن مقهى “قصيدة نثر” رغم صغر مساحته، إلا أن تصميمه ونظامه يوحي بشكل أكبر بأنه ملتقىً ثقافي، فإلى جانب اسمه الجذاب، وكلمات وصور الأدباء التي تعانق جدرانه، الأجواء هادئة وبعيدة عن دخان الأراكيل، كذلك الحال مع مقهى “روزنا”، وهو مقهى داخل المركز الثقافي، ويعتبر تجمع للكتاب والصحفيين والفنانين لكنه لا يقدم فعاليات ثقافية، هو فقط يوفر بيئة صحية للكاتب.

وتختم قائلة: «في الحقيقة لا يوجد مقهى ثقافي حقيقي وشامل في اللاذقية، يعبر عن الحركة الثقافية من خلال العروض المسرحية والمعارض التشكيلية، والمحاضرات، أغلبها مقاهي ثقافية بالاسم، وإن وجد فهو لا يقوم بدوره الحقيقي، إلا في حالات نادرة وقليلة».

ملاحظة: هذه المادة ليست توثيق ولا تقييم للمقاهي الثقافية في سوريا، لكنها تفتح أبواب الذاكرة على أماكن كان لها وزنها في الماضي، بعضها ما يزال موجودا وآخر اندثر، كما تلقي الضوء على تجارب شبابية عصرية طورت من مفهوم المقهى الثقافي.

اقرأ أيضا سوريا.. نساء دخنّ الأركيلة علناً في التسعينات واليوم يدخِنّ السجائر سراً

مقهى “قصيدة نثر” – اللاذقية

زر الذهاب إلى الأعلى