نداء إلى النسوية.. نساء مستعملة للبيع – شاهر جوهر
لو كانت آلة دفعوا ثمنها طيناً لا مالاً لكانوا أراحوها ورحموها حيناً
اليوم أنا في العاصمة دمشق، إنها مدة طويلة عن آخر زيارة لي لهذه المدينة الجميلة قبل عشر سنوات، لكن لعمري وأنا أجول دروب هذه المدينة أشد ما يدفعني للشفقة على حال، هو حال نسوة الفلاحين هناك ورائي إذ خبرتُ أمرهنّ جيداً خلال مكوثي بينهنّ طوال تلك السنوات المرّة الفائتة، فلا عجب إذاً أنهنّ يتواسينّ بالنعيم الذي وعدهنَّ به صالحو الريف والكتب المقدسة، لأنهنّ علمنَ حجم مشقتهنّ في الدنيا ومشقة تبديل حالهنّ وسط كل تلك العقول الصعبة والمعيشة الضنكة لحالٍ أكثر هدهدة من هذا الجحيم بعينه.
كل صباح ما إن يبلغ صوت الديك صولجان أذنيها بصياحه حتى تفز المرأة الريفية مكرهة بسراويلها الطويلة والسميكة والخشنة والمعفّرة بالطين وبزبل البقر المالح، لتركض بين البيوت والكروم والزرائب لترضي زوجاً فحلاً لا يعجبه العجب، سوى التفاخر أمام الآخرين بكيفية عدم منحها فرصة للتنفس، الجميع هناك يُكره المرأة الريفية بالتفاصيل اليومية.
على الأطراف في بلادنا بعيداً عن المركز في قريتنا وفي قرة كثيرة أخرى يُنظر للمرأة كآلة، ولستُ أبالغ فيما أقول، حتى لو كانت تلك المسكينة آلة لتعطلت بعد يومين في عملها في الأرض على أبعد تقدير، ولو كانت آلة وكانوا قد دفعوا ثمنها طيناً لا مالاً لكانوا أراحوها ورحموها حيناً، لكن أغلب صباحات هذه النسوة تبدأ على هذا النمط الحزين وتنتهي به، وحين تمرض إحداهنّ وتتعطل ويصبح إصلاحها مكلفاً فإنها تُفكك وترمى كخردة في مستودع مليء بالفئران، و أنا أقصد ذلك حرفيّاً متألماً على حالهنّ.
اقرأ أيضاً: لا تكفي إدانة العنف ضد النساء.. ماذا عن جذوره بالاجتهادات التمييزية؟
لقد مشيت ذات مساء في خلوة مع نفسي في ممشى مسوّر بأشجار الكينا في إحدى طرق الريف جنوب البلاد، وحين بلغتُ عِرصة من الأرض رحبة الجنبات بلغني تردد نحيب تلك السيدة الريفية المطرودة من زوجها، وقد تكوّرت فوق عبّارة ماء صغيرة، إنها ليست المرة الأولى، أنا أعرفها، إنها باتت بالنسبة لبعلها مكنة صدئة لم تعد قادرة على الإنتاج.موقع سناك سوري.
تزوجت تلك السيدة من شاب في القرية، قبلته كزوج ورفيق، فكال لها الضغينة بأقسى أنواع المعاملة كعدو لا زوج، وحين لم تتمكن من الإنجاب تزوج عليها بأخرى فأصبحت خادمة للعريسين الجديدين، لكن حين تدهورت صحتها بفعل المرض وجدها مكنة مكلفة أكثر من كونها منتجة، وأكاد أحلف مئة يمين لو أن أحداً هنا يشتري النساء المستعملات لكان هذا الزوج قد باعها بأبخس الأثمان دون أن يرف له رمش، لكنه رماها في الزريبة مع البهائم لتقاسي أنواع الآلام النفسية والجسدية حتى طوت نفسها على وجعها وماتت وحيدة.
يا لقساوتنا، لعمري أننا لا نرحم ولا نترك لرحمة الله لهنّ بيننا بأي حال، نروم منهنّ كل شيء ولا نقدم لهنّ شيء واحد يرغبنَ به، وحين تصل إحداهنّ إلى باب العدم، كما تلك المسكينة، فلا نحن نمسكها بمعروف ولا نحن بمن سرّحها بإحسان، رغم معرفتنا الجاهلة بأننا حين نُعرض صفاً صفاً أمام الله في اليوم الموعود سنُنسبُ لهنّ طوعاً وكرهاً، لأن هذا ما وعد الرحمن، وهذا ما أؤمن به.
النسوة هنا في العاصمة، رغم كدحهنّ يعشنّ في الجنة دون أن يعلمنّ، أما في الريف فالنسوة تكدح طوال النهار وحين يضم الليل جناحيه على القرية يفرغ الرجال بهنّ شهوتهم مع كيلهم المستمر لهنّ بالشتيمة بفعل رائحتهن العطنة وكنوع من التمنن فهم لا يتعبوا من مقارنة زوجاتهم بنسوة المدينة وأناقة نسوة المدينة ودلال نسوة المدينة ورائحة وغنج نسوة المدينة، وكأنهم لا يعلموا أن بعض الخواطر المكسورة لا تُجبر، فالتهكّم الساخر عليهن في كل جلسة، عن لباسهنّ ورائحتهنّ وشعرهنّ النافر وأسلوبهنّ غير المنمق في الحديث كلها في مقدمة المواضيع التي يتناولها الأزواج في سهراتهم، لكن لا أحد منهم قال يوماً أنهنّ لا يسمح لهنّ أن يتفردنّ لدقيقة للاهتمام بأنفسهنّ.موقع سناك سوري.
ليت لي قدرة على ذكر أسمائهن كلهنّ، كل نسوة الريف الكادحات المناضلات، اللواتي لم يقرأن حرفاً في كتاب ولا أمسكنَ قلماً في دواة، كل ما أجدنه هو فلح الأرض وبذارها وحصادها وحلب البهائم وخرط خياشيمها وجرف زبلها وتبنها وترتيب جوارب زوج اعتبرها قطعة من حديد، وأقصى رفاهيتها أن تكون ممخطة في فراش الزوجية.
اقرأ أيضاً: المرأة الموظفة.. مساواة في العمل وجهد مضاعف بالمنزل – لينا ديوب
بلّغوا نسوةً في العاصمة أن “نضالكنّ” بالجلوس في منصات ثقافية وأمام وسائل الإعلام تأكلنّ الموز وتشربنّ البيبسي تحت اسم “دعم النسويّة” ما هو إلا جلسة مسّاج لنسوة في الريف، وأن ما تسمونه صراع لأجل البقاء وكدح وثبات في مساعدة مجتمعكنّ ما هو إلا فصل من فصول الرفاهية.
في الريف هناك قوارير تكسر، هناك إمرأة تُقتل كل يوم وأخرى تُقيّد بالسلاسل وتُربط عارية ليلاً في عامود كهرباء لأنها نامت ونسيت أن تغسل جورباً لزوج، وفي الريف هناك أمٌ تُحرم من أطفالها و طفلة تزوّج ثم ترمى في الشارع كممخطة بلا أي حسيب، في الريف جميع النسوة يعرقنّ كل يوم لتضعنّ أنتنّ على موائد أطفالكنّ بيضاً وحليباً ولحماً وزيت زيتون وخبزاً مطليّاً بالزبدة.
يا من تقرأون الآن، بلّغوا نسوة في العاصمة ليتذكرنّ معي تلك الأسماء، فأنا لا أنسى الحاجة فيضة، عيدة، رحمة، بورة، حاجة، صبحة، عائشة، فاطمة، عمشة، ثلجة و عسيلة، ونسوة كبار كثر هنا كنّ سبباً في بناء أمة.
سناك سوري – شاهر جوهر
اقرأ أيضاً: احتفالية مناهضة العنف ضد المرأة.. نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً!