الرئيسية

“مُتْ قاعِد”.. المتقاعدون السوريون طاقات مهدورة وجهد مبعثر

مئات آلاف المتقاعدين في “سوريا” منسيون بعد سنوات طويلة في الخدمة

سناك سوري _ عفراء بهلولي

يتكرر مشهد دخول أبي المنزل عائداً من السوق بغضب، يرمي أكياس الخضار في أرض المطبخ مرفقةً بشتيمة غضب.

وكما ينبغي لفتاة مثلي أتبادل النظرة ذاتها مع والدتي وننسحب من المطبخ ليأكل والدي الغاضب، المشهد ذاته يتكرر منذ الأيام الأولى لإحالة أبي إلى التقاعد من وظيفته الرسمية.

بِتُّ أعرف جيداً سرّ غضبه في اللحظة التي بدأ شعور عدم الأهمية يتسرّب إليه منذ أن التصقت به صفة “متقاعد”، والمتقاعد هي الصفة التي تنطبق على كل موظف مدني أو عسكري انتهت مدة خدمته في قطاعات الدولة.

بينما يُخصص له معاش تقاعدي يتناسب مع فترة عمله التي أمضاها في الوظيفة، وينطبق هذا الأمر فقط على الموظفين الذين ارتبطوا مع إحدى الجهات بعمل رسمي تحكمه اللوائح والأنظمة ويتطلب دواماً يومياً مستمراً ومحدداً.

يطلق أبي مصطلح “مت قاعد” على حالته منذ إنهائه لسنوات خدمته، يمضي نهاره بين متابعة الأخبار وتصفح بعض الكتب بضجر وتوجيه الإرشادات لكل أفراد الأسرة، ومع الوقت أصبح يتدخل في كل شؤون المنزل التي يحاول إشغال نفسه بها وفي أغلب الأحيان ينتهي به المطاف بشجار مع أمي.

دفعه الضجر والفراغ إلى صيانة كل شيء في المنزل وحين انتهى من ذلك بدأ بعرض خدماته على الجيران تطوعاً منه لملء فراغه الطويل، فيما يتخوّف من اقتراب الشتاء بليله الطويل وغروب شمسه الباكر حين يتزايد شعوره بأنه غير مفيد.

إلا أن ابتسامة لا تستطيع عيناه إخفاءها تظهر حالما تلمع الكهرباء بقوة بسبب ماس في خطوط الكهربائي ما يعني أن عليه الآن أن يفحص أجهزة المنزل الكهربائية وحتى أجهزة الجيران وهذا كفيلٌ بإشغاله يوماً واحداً على الأقل.

اقرأ أيضاً:“حلب”.. حين صمت صوت الطفلة تحت الأنقاض وهي تستجدي أمها إنقاذها

يكافح أبي يومياً ليثبت للعالم أنه مازال قادراً على العمل والعطاء، يحاول القول أنّه لا يريد البقاء كشيءٍ عديم النفع منسيّ على الرف بانتظار الموت، يكرر دوماً أن الكثير من المدرّسين والمهندسين وأصحاب الخبرات والعمال يشتركون عند إحالتهم إلى التقاعد بإحساس ” مُت قاعد” حيث يندر أن يجدوا مكاناً مخصصاً لهم يمارسون أنشطة تملأ أوقاتهم ولا من جهة حاولت الاستفادة من خبراتهم.

شهرياً يعود أبي حانقاً بعد تقاضي معاشه التقاعدي، لأنه يتذكّر أنه لم يعد له من فائدة وأنه سيموت قاعداً لأنه ببساطة “مت قاعد”.

أرافق أمي مساءً في زيارة لامرأة مريضة من قريتنا اجتمع في منزلها بعض أهالي القرية للاطمئنان عليها فيما كانت أحاديث الغلاء وضعف الرواتب تطغى على الجلسة كان الزائرون يشتمون الفاسدين واللصوص الذين يسرقون المال العام من مواقعهم في الوظائف الرسمية.

إلا أن “أبو عمار” لم يستطع كتم وجعه في الحديث عن راتبه التقاعدي، فيتوجه إليّ بسؤال مربك: «ولك عمي شو بدو يكفي هالمعاش ليكفي؟» لم أتوقع أنه ينتظر إجابة مني فيكمل «بعد 30 سنة خدمة بالدولة معاشي 38400 ! والله ما بتكفيني أنا والختيارة لعشرة بالشهر منرجع منبلش نسحب بالدين من الدكان وأحياناً حتى الأدوية مناخدها من الصيدلية بالدين!»

يردف الرجل الستيني بألم «عم اشتغل بالأرض وهون وهون بس لاقدر أمن حق الحطبات لهالشتوية» ويشرح مطوّلاً أن تحويله إلى شخص لا فائدة منه يحمل الكثير من الظلم والإجحاف بحقه لا سيما تركه لمواجهة مصاعب الحياة براتب تقاعدي ضعيف ودون تأمين صحي تزداد حاجته إليه أكثر بعد تقدمه في العمر أكثر من الحاجة إليه في سنوات الشباب.

حيث يشتكي غالبية كبار السن من أمراض الضغط والسكري والشيخوخة وغيرها وفي بعض الأحيان تترك سنوات العمل وطبيعته أثرها في صحة الموظف وقد تكون سبباً رئيسياً لبعض الأمراض.

وتشير إحصائية رسمية لعدد المتقاعدين في “سوريا” أن عددهم 550 ألف متقاعد في العام 2015، وفق ما نقلته حينها صحيفة “الوطن” المحلية عن مدير المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات “خالد الحلقي”.

ومن المؤكد أن العدد ارتفع بعد 4 سنوات من ذلك التصريح وهو ما يدفعنا للتفكير بهذه الشريحة الواسعة المنسية والدعوة إلى إيلائها المزيد من الرعاية والاهتمام وتقدير سنوات عمرها التي أمضتها في الخدمة لصالح مؤسسات الدولة.

اقرأ أيضاً:على طريق الشام … عفراء بهلولي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى