بعد تأمّل طويل بموضوع “القيم”، خطر ببالي بأن تكون هذه القيم مادّة غازيّة. وبالتالي فهي سريعة الإنتشار، وهذا مجرّد خيال، ولكن قريب من الواقع. فلو نظرنا للموضوع بشكل أدقّ، فالقيم لغويًّا مرتبطة بالقوام. فيُقال بأنّ قوامه حسن ومستقيم، وهذا ينطلي ليس فقط على الناحية الجسدية الفيزيولوجيّة، بل بشكلٍ أساس على الناحية المعنوية أي المضمون الأخلاقي للإنسان.
سناك سوري-ناجي سعيد
ويتدخّل اللاتوازن الفكري عند الإنسان ليسمح لعدّة مفاهيم سلبيّة أن تحتلّ مواقف نعتقدها جيّدة، وهي غير ذلك! وكلّ ما هنالك بأنّ تلك القيم نزعت رداء الإنسانيّة لتتدثّر بمعطف مواقف المصالح السياسية التي تُركّب أذن الجرّة في المكان الذي يناسبها. وما أثار دهشتي حاليًّا، هو النظرة التمييزية التي أطلقها الغرب من خلال تصريحات صحفيّة غربية تُعلن بأن النازحين الأوكرانيين هم ليسوا نازحين كغيرهم: “.. فانظروا إلى النازحين من أوكرانيا، إنّ لبسهم راقي، وهم ذو عيون زرقاء وشعر أشقر!!”.. وكأنّ هناك : نازحين بسمنة ونازحين بزيت، بحسب المثل الشعبي! العنف لا يستثني طبقة اجتماعيّة حين يحدث.
فربطًا بما قلت أعلاه، العنف مفهوم سلبي يسقط على رؤوس الجميع دون استثناء! فكما يقول الشاعر الجاهلي زهير ابن أبي سلمى: ” رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ”.
اقرأ أيضاً: مرض الحرب – ناجي سعيد
وكما العنف والموت هي المفاهيم السلبية التي لا تستثني أحدًا، كذلك القيم لا يُفترض أن تستثني أحد. القيم حصرًا إيجابية، فالمعنى اللغوي لكلمة “قيمة” تُفضي إلى كلّ ما هو إيجابي. فالعنف أو الموت ليس قيمة بل مُصيبة، حتّى لو ارتدت عباءة التحرير أو الشهادة من أجل الوطن. فالتحرير الحقيقي والحرب الحقّة للدفاع عن الوطن هي لاعنفيّة أصلاً! فهل يختلف النازح بلباسه ولون عينيه أم بجواز سفر يحمله لينفي عنه مصيبة النزوح؟.
النازحون في سوريا والعراق ولبنان، ليسوا بشرًا؟ وهل النزوح ينظر إلى تاريخ بلد المواطن النازح؟ وإن كان هناك قصورًا في تطبيق الدولة لمفهوم المواطنة، تجعل النازح أقلّ قيمة من نازح عاش مواطنتيّه بشكل سليم؟ النزوح يأتي بعد حالة حرب، ولا يعنيها ماضي الوطن الذي يُشنّ عليها حربًا ظالمة!.
اقرأ أيضاً: هل نستطيع تفريغ العنف بشكل سليم – ناجي سعيد
لقد عشت تجربة النزوح المؤقّت، ويدعى “التهجير” أثناء حرب تمّوز الإسرائيليّة، وقد كانت تجربة مريرة، فببساطة يفقد الإنسان قيمة وطنه، حين يترك قسرًا غرفته وسريره! فهذا المكان الحميم يساهم في تشكيل المنطقة الآمنة التي يرتاح الإنسان وقت الركون فيها. وأهميّة المنطقة الآمنة تكمن عند اتّساعها- الوطن- في تشكيل وعي إنساني، يميّز بين الحقّ والباطل. وهذا هو الميزان الحقيقي الذي يخوّل أي إنسان مسؤول سياسي (تحديدًا) ليُصرّح كما يجب، وكما يقتنع هو بوعي فردي دونما الحديث باسم مصلحة سياسة دولة، قد تدفع للظلم والغزو والإحتلال!.
وليس تبريرًا لمن يرتكب التمييز، ولكن التمييز يبدأ عند الأطفال، فالطفل يعبّر عن الإختلاف الذي يصادفه للمرة الأولى بطريقة عفويّة. فأذكر أن ابنة أختي “جنى” أثناء طفولتها، سألت خالتها حين رأت إمرأة ذات بشرة سوداء في باص المدرسة: “خالتو، ليه هيدي المرا مش مغسّلة وجّها؟”، والحال ينطلي على السياسيين الذين يتحكّمون بسياسة العالم.
وأقول لجنى: السياسيين والإعلاميين يا خالو مش مغسّلين وجههم.. وقلوبهم سوداء كوجه هذه المرأة الناصعة القلب. الإنسانية هي رداء مناسب للإنسان مهما شرّق وغرّب، ولو جلس داخل وخارج الشاشات الزائفة.
اقرأ أيضاً: العنف السياسي.. ناجي سعيد