أخر الأخبارالرئيسيةرأي وتحليل

مقاومة الخوف .. الإنسان عدو ما يجهل _ ناجي سعيد

مفهوم الخوف وخوف المجرم ...

كنت أقضي عطلتي الصيفيّة في مساعدة أبي في عمله في الفرن، وكان الفرن عند مفترق إحدى قرى الجنوب اللبناني، على الطريق الساحلي.

سناك سوري_ ناجي سعيد

وكانت القوات الدولية منتشرة في جنوب لبنان قبل اجتياح عام 1982.  وكنتُ في الثامنة من عمري على ما أعتقد إن لم يكن أقلّ، ورأيت كيف تصرّف جنود الطوارئ كما كنّا ندعوهم، بعد أن بادرهم الشباب “الزعران” بحركات “أصبعيّة”  بذيئة.

ضغط السائق على الفرامل بقوّة أحدثت “شحطة” طويلة، ورمى الجندي الحصى الصغيرة على الشباب مُستخدمًا “النقّيفة”!.

وطُبع المشهد في ذاكرتي، التي نشطت ليلاً، فأصابني الأرق خوفًا من تذكّري للحادثة التي رأيتها. جندي ضخم بلون بشرة داكن. وأذكر تمامًا ردّ فعلي كطفل، ذهبت إلى غرفة أبي المجاورة لغرفة نومنا (السبع أولاد)، وصرت أبكي قائلاً: بابا أنا خايف.

فدعاني للنوم بقربه، دون أن يسألني عن سبب خوفي، واحتضنني، فنمت مطمئنًّا. والخوف الذي طالما شَغَل بالي وملأ قلبي وعقلي سرعان ما زال.

أيقنت بعد هذه الحادثة، وربط الخوف بسلوك العنف، حتّى لو لم أكن المُتضرّر أو المقصود. ومن الطبيعي (بشريًا) أن يظهر الخوف لدى أي شخص يتعرّض للتهديد والخطر أو العنف بأشكاله كافّة. لكن كيف يمكننا معرفة بداية وجود الخوف بداخلنا؟

يمكنني أن أتذكّر أيضاً، هذا الشعور حين راودني لأوّل مرة بطفولتي. قبل أن أبلغ العاشرة من عمري، حين شعرتُ بقلقٍ من أمرٍ مجهول.

مفهوم الخوف

وبما أنّ طريقة إدراكي للمفاهيم بصريّة، فقد ربطتُ مفهوم الخوف، بشكل علاّقة المفاتيح التي أعطاني إياها أحد زملائي. وهي بشكل مجسّم صغير لعينٍ زرقاء اللون.

حيث كنّا ندرس أقسامها في مادة العلوم. والاستنتاج الحالي لهذا الشعور، يُختصر بمقولة: الإنسان عدوّ ما يجهل. نعم فلأنّي لا أعرف سبب خوفي حينها، أيقنت أنّ خوفي كطفل نبع حينها من جهلي بالموضوع الذي كان قيد التداول أمامي. وهذا الوضوح في عمليّة تحديد المشاعر، يُسهّل الكلام عن أسباب الخوف لدى مختلف الناس.

فزميلتي الألمانيّة، نتيجة لغوصها في عالم الروحانيات، يُقلقها مثلاً أن روحها ستعود بعد موتها لتتجسّد في إنسان آخر. وقد سألتها بالواقع الآن ما الذي يخيفك؟ فأجابت بشكل تقليدي ومُتَوقّع: أخشى على أمّي المريضة، هل ستُشفى؟ وأتساءل هل سيصيبني مرضها حين أبلغ سنّها؟

أمّا زميلي السوري، فعنوان خوفه هو: المستقبل. وهذا طبيعي، فالخوف والقلق، في بلدٍ بأكمله مجهول المستقبل. لا يمكن أن يطمئنّ على مستقبله من يعيش في هذا البلد؟ وتزداد نسبة الخوف إذا ما ارتبط الشخص بعائلة وأطفال. مسؤوليته والتزامه بحماية أفراد عائلته تُقلقه وتشعره بالخوف الدائم. ومن هنا نستنتج بأن الشعور بالخوف هو تفاعل الذات مع عدّة عوامل خارجيّة، وبتعبير أدقّ حين تكون تلك العوامل  خارج السيطرة. فالقدرة على السيطرة موجودة ضمن نطاق الذات.

الإنسان عدو ما يجهل

فلو كانت الذات منفتحة وقابلة للتطوّر والتعلّم، يعني ذلك أنّه يمكننا العمل على تطوير القدرة، من خلال الحفاظ على استمراريّة التعلّم. وبالتالي يتبع ذلك إتّساع أُفق المتعلّم، وهذا الإتّساع للمعرفة بمواضيع عدّة، يُضيّق مفهوم الجهل الذي يُقلق ويُخيف.

فمفهوم جهل الإنسان لسبب صوت الرعد مثلاً، كان حافزًا دَفَعَهُ لعبادة مظاهر الطبيعة المُخيفة بالنسبة له كالشمس والقمر والشتاء والعواصف.. إلخ. وقد علّمتنا ظواهر الطبيعة بأنّ الصوت المرتفع والضجيج لا يُزهر ولا يُثمر. فصوت الرعد مُجرّد ضجّة وإزعاج، لأنّ الأزهار والثمار  لا تنمو من البرق والرعد،  فالمطر هو سبب ارتوائها ونموّها.

وبالتالي إن ارتفاع الصوت الذي يُحدثه أي شخص، إيذانًا ببدء عراكٍ أو خصام مع أحد، ليس مؤشّرًا على شجاعته  لخوض المشكلة، لا بل محاولة لإخفاء الخوف الذي يعتريه.

هذا سلوك الجبناء عادةً، يرفع الضجيج، ليُظهر شجاعته وجرأته، فيخفض جرأة إنسانيّته اللاعنفية لمواجهة الحقّ والحقيقة. فإنّ هذا اللاعنف المُتجذّر في طبيعة البشر، يحتاج حتمًا إلى عملية تفكير عقلانية ليتحقّق.

خوف المجرم

وليس في علم اللاعنف ما يحثّ الإنسان على مقاومة الظلم بطرق عنيفة، لكنّ بالتأكيد، الخوف لا يدخل في قاموس النضال اللاعنفي، ولست أُهذي، فالمناضل اللاعنفي يتحلّى بالشجاعة، مع أخذ كامل التدابير التي تحيط نضاله بالحيطة والحذر. وما أتحدّث عنه نراه في صلابة أهالي “غزّة” وصمودهم بوجه الآلة العسكرية الصهيونيّة، فليست لامبالاة واستهتار، بل تمسّكاً بحقّهم لملكيّة الأرض وتاريخها.

لقد تصالحوا من داخل ذواتهم مع وجود وحش مجرم يقتل الأبرياء بشكل عشوائي. وهذا دليل قاطع على خوفه من مجهول لا أحد يعرفه.

وكل ما يدور حديثًا عن “طوفان الأقصى”، يسهب محلّلون ويتحفوا العالم بنظريات عن الخوف، لدى الطرفين في المعركة، ولست بصدد الحديث عن ذلك، لكن يُمكنني التأكيد بأن العنف المستخدم، بحجّة الحقّ أم الباطل، لا بُد لأن يُسبّب الشعور بالخوف.

وبغضّ النظر عمّا وراء هذا الخوف. فإن الخوف شعور طبيعي وحتمي الوجود داخل كلّ إنسان، لكنّ الشجاعة وهي نقيض الخوف تكمن في القدرة على القضاء على أسباب الخوف. على الأقلّ المباشرة، التي من السهل السيطرة عليها. ببساطة، كي لا يخاف طفلنا العتمة، نعوّده على النوم في غرفة مُطفأة النور.

فالتربية هي المسرح الأساسي الذي نمكّن فيه أطفالنا على مواجهة المواضيع الصعبة، وتحديداً المشاعر الغامضة للطفل، فهو لا يزال في بداية نموّه العاطفي. فلو كان القلب هو مجال العاطفة، لكان بإمكان التربية أن تعطي الريموت كونترول للعقل فيستطيع التحكّم بالمشاعر وفقًا لعلم الدماغ.

فأقول مجدّداً أن العقل يُقرّر والقلب يجعلني أُحبّ ما أُقرّر. غالبية الناس تنجرف عاطفيّا، فتُهمل عمل العقل، لذلك نرى العديد من القرارات الخاطئة تُسبّب الفشل، الذي يتبعه الخوف من تكراره مُستقبلاً. الخوف من المجهول هو معرفة المجهول، بالعلم وتحديث معرفتنا باستمرار. لا يوجد شيء ثابت ونهائي، إلاّ المُتغيّر فهو الثابت الوحيد.

زر الذهاب إلى الأعلى