تاريخنا الذي يتغنى به البعض يشبه واقعنا اليوم – أيهم محمود
هل عدم الاستقرار قدر سوريا الدائم؟
يوجد في مراسلات تل العمارنة بعض تاريخ الممالك الكنعانية المنتشرة على الساحل السوري، ترجم أحد هذه المراسلات (الصورة المرفقة) شاب مهتم بلغات المنطقة القديمة، الرسالة موجهة للفرعون المصري يحرضه فيه على ممالك كنعانية أخرى، حين تعارضت مصالح الممالك بحثت كل منها عن دولةٍ قوية تنتصر بها على شقيقاتها، لم تكن تلك الحوادث فرديةً معزولة في تاريخ المنطقة، ربما لن تعجب هذه الفقرة المنادين بهوياتٍ قديمة ظنوا أنها حلمُ نجاحٍ بينما الحقيقة تقول أنها واقعٌ يكاد يشبه واقعنا الحالي الذي يحاولون الهروب منه عبر هذه الخيالات.
سناك سوري-أيهم محمود
هناك قدرٌ تحكمه الجغرافيا، موقع سوريا الطبيعية كنقطة عبور تجارية وعسكرية وسياسية، إن أرادت فارس توسيع نفوذها احتاجت إلى بسط سيطرتها على بعض أو كل الأراضي السورية، فعلت الامبرطورية العثمانية هذا أيضاً، الفراعنة، الرومان، الاسكندر حين أراد هزيمة الفرس، العرب أثناء التمدد الإسلامي، هذه مجرد أمثلة فقط والقائمة طويلة جداً، تشبه سوريا الطبيعة منطقة عبور الفيلة لذلك على النباتات والحيوانات الصغيرة فيها أن تتكيف جزئياً مع أخطار لا طاقة لها على مقاومتها، لم يتوقف هذا العبور عبر تاريخ سوريا كله لذلك بقيت هوياتها الصغيرة ممزقة بين مشاريع هويات المنطقة، لكنها بقيت في الوقت نفسه مكان انصهار شعوبٍ وبقايا حضارات مرت من هنا لتندمج جزئياً أو كلياً ببقية الشعوب التي استوطنتها عبر التاريخ.
عانت سوريا عبر تاريخها الطويل من محاولات فرض الهويات القسرية عليها، امتصت بعض ألوانها لكنها بقيت أرض عدم استقرار تشبه في هذا الأمر أيضاً قدرها الجيولوجي في وقوعها قرب خطوط تصادم الصفيحة العربية مع الصفيحة الأناضولية – الأوراسية والصفيحة الأفريقية، تصادم الصفائح هو السبب المباشر للهزات الأرضية في المنطقة، أما تصادم الصفائح البشرية فهو سبب الهزات الاجتماعية والسياسية، بعض خطوط الاصطدام مشتركة بين الجيولوجي والبشري.
هل عدم الاستقرار قدر سوريا الدائم؟
جيولوجياً على الأغلب نعم، لكن بشرياً واجتماعياً القضية مفتوحة على كافة الاحتمالات، لدينا ثقافة متمردة قاومت طويلاً كل محاولات الإلغاء ومحاولات طمسها، ثقافة قادرة على التمدد وعلى الاحتواء وعلى هضم ثقافات الوافدين إليها، الكثير من عناصرها مستمدٌ منهم لكنها لا تشبههم، حاولت جهات سياسية وقومية مختلفة حتى في العصر الحديث توحيد المكونات السورية عبر فرض هويات تاريخية على جميع سكانها لكنها بقيت كقشرة رقيقة لا تستطيع منع التمدد الدائم للثقافات الداخلية المتعددة والمتصارعة أيضاً فيما بينها.
اقرأ أيضاً: قريباً السيارات الثمينة في العالم إلى الصهر – أيهم محمود
قدر الهويات المفروضة قسراً أن تتشقق مع أول هزة اجتماعية وهذا ما نراه دوماً في أحداث المنطقة، لم تستطع الهوية الاسلامية التي لها نسبة مهمة من المؤيدين في كبح صراعات الهويات الجغرافية سواء في سوريا أو في غيرها من دول الشرق، كما لم تستطع الهوية العربية خياطة الجروح التي لم تستطع الهوية الإسلامية معالجتها، الهوية القومية السورية مثالٌ آخر على الهويات الحلم التي لا يمكن فرضها على أرض الواقع قسراً، البعض له هوية تركية، آخرون يمتلكون هويات صغيرة أخرى، هناك أيضاً من يحتمي ظاهرياً بهوية سائدة لكنه في واقع الحال يعيش في مرحلة القبائل والجماعات في أزمنة ما قبل الهويات الكبرى ولا يشعر بأنه معنيٌ بها وبصراعاتها.
تعددت نظريات الهوية والعوامل المثبتة لها، سبب تعريف الهوية الكثير من الصراعات العالمية والحروب المدمرة وخلق في بعض الجغرافيا وبعض التاريخ هويات عنصرية قاتلة، ربما الخلاص النهائي هو هوية إنسانية واحدة لكن حتى يتحقق ذاك الحلم الذي يبدو مستحيلاً الآن هناك مراحل يجب إنجازها على الأرض السورية، هويةٌ تجمع حقاً كل هذه المكونات الموجودة على الأرض دون أن تكون سبباً إضافياً للصراع فيما بينهم سواء من ناحية فرض اللغة أو فرض الدين أو فرض الانتماء القومي، هوية المصالح المتشابكة.
في المثال الأمريكي الذي يناقض الأمثلة الأوروبية العجوز نجد هويةً مازالت صامدة تؤسسها مصالحُ البقاء ومصالح الحياة اليومية للبشر، استطاعت الهوية الأمريكية أن تصهر هويات تاريخية قديمة ومنجزة دون الدخول في صدام معها، بل العكس هو الصحيح، تفتخر الثقافة الأمريكية بوجود الهويات المختلفة فيها، افتخارُ القوي المنتصر الذي يُشرّع استخدامها علناً فهو يعي أنها مجرد أشياء ثانوية مقارنةً بهويته التي يسعى الجميع لامتلاكها، أمامنا مثال حي بقي صامداً رغم الهزات التي مرت به يبرهن إمكانية خلق هويةٍ جديدةٍ مستقرة تستطيع أن تصنع دولة قادرة على البقاء والتطور.
في الأصل الإنسان فرد وهويته فردية، الانحياز إلى الهوية الجماعية يعني التخلي عن بعض مميزات الهوية الفردية لصالح الحماية ومصالح البقاء التي تقدمها الهويات الجمعية سواء كانت عائلية أو قبلية أو قومية أو دينية أو سياسية كما نراها في العصر الحديث على شكل أحزاب بعضها عابر للقارات، تشكلت القبائل والدول والكيانات عبر هذا التخلي عن بعض الفردية لتشكيل هوية موحدة أكبر، هناك حدٌ دقيق بين الهوية الفردية والجماعية، نقطة توازن هامة تجعل الفردي يمزق الجماعي أو العكس وفي الحالتين نكون أمام هويات هشة لن تصمد كثيراً في زمن الهزات الاجتماعية، الهويات التي تستطيع الصمود هي الهويات التي توازن بين مكوناتها البدئية وتستطيع نسج خيوط ارتباط أفقية وعمودية وفي كل الاتجاهات الممكنة بين مكوناتها المؤسسة لها، مثل هذه الهويات تقاوم الهزات حيث تمنع روابط المصالح الفردية من تشكل الشروخ الموضعية التي يمكن أن تتطور بسرعة إلى شروخ عميقة مُفتِتة للهوية وهذا ما حدث عبر تاريخ سوريا الطويل.
الهويات التي تستطيع الصمود هي الهويات التي توازن بين مكوناتها البدئية وتستطيع نسج خيوط ارتباط أفقية وعمودية وفي كل الاتجاهات الممكنة بين مكوناتها المؤسسة لها أيهم محمود
في الحرب السورية رأينا أمثلة عن مجتمعات متناقضة حمت بعضها بعضاً نتيجة وجود مصالح مترابطة في مقابل مجتمعات غدر الجار فيها بجاره نتيجة عدم نجاح كليهما في خلق روابط مجتمعية تمنع مثل هذه الحالة، لم تستطع الهويات القسرية أن تمنع المجتمع من التفكك والانقسام لأنها لم تراعِ وجود الهويات الجزئية فيه بل تعاملت معها بتعالي وباستخفاف، مسألة الهوية خطيرة، هي أن نكون أو لا نكون، لن تُفلح الهويات الحلم في الحلول مكان هوية واقعية عملية تستطيع تغيير تاريخ المنطقة لقرون عدة على الأقل، هويةٌ تعتمد وفق التجربة الأمريكية المستقرة والمنجزة على بناء شبكة مصالح وشبكات استقرار اقتصادي وعلمي يوحد الثقافات المختلفة التي هي عوامل غنى وعوامل قوة لأي هوية حقيقة حديثة.
اقرأ أيضاً: علاقة السوريين بالجلدة قضّت على آمالي بالصمود – أيهم محمود
لقد استطاعت الثقافة السورية غير المعلنة وغير المُعترف بها من قبل جميع الأطراف التي تطرح فرض هوياتها القسرية القيام بعملية هضمٍ ناعم طويل الأمد لثقافات كثيرة وافدة إليها، لكنها بقيت عاجزة عن تشكيل قوة رادعة تمنع الاستثمار السياسي للقوى التي تحاول دائماً احتلال الجغرافيا السورية أو على الأقل تحييد إرادة سكانها لجعلها ممراً آمناً لسياساتها الإقتصادية والعسكرية.
تشكيل هوية مستقرة يعني حتماً تشكيل كيان يستطيع فرض إرادته وفرض مصالحه على الآخرين وهو أمر لن يروق لهم بالتأكيد، قد يبدو هذا الأملُ مستحيلاً لكن دروس الطبيعة والتاريخ تعلمنا أن هناك لحظات انقلاب ممكنة تجعل المستحيلات السابقة ممكنات إن استطاع العقل البشري اكتشاف المعادلات الصحيحة التي تحكم السلوك الفيزيائي أو الطبيعي، الهوية معرفة، الهوية قوة، الهوية استقرار، الهوية غنى، ولا يوجد ما هو أغنى من الجغرافيا السورية في تنوع ثقافاتها التي يمكن تحويلها من عوامل تفتيت وعوامل حروب وصراعات داخلية إلى عوامل قدرة وطاقة قادرة على تشكيل فيلٍ ضخمٍ قوي بحجم الفيلة التي داست هذه الأرض عبر التاريخ، قوةٌ تستطيع الدفاع عن جغرافيتها وعن حقها في استعادة مكوناتها التي ضاعت منها، نحتاج فقط أن نخرج من القوالب التقليدية التي تقيد حركة الوعي للذهاب نحو آفاق رحبة لم يتم اكتشاف حدودها بعد، هذا هو جوهر البحث العلمي الذي يستطيع وحده قلب حياة البشر بين حال وحال، المعرفة كانت دائما وأبداً قوة، المعرفة تغيير يجب علينا أن لا نخاف منه فهو سبيلنا الوحيد للنجاة مما نحن فيه.
اقرأ أيضاً: محنة العقل العربي – أيهم محمود