هل تكليف سيدة برئاسة حكومة تونس انتصار للمرأة – أيهم محمود
كيف نخرج من واقع هزائمنا الحضارية أمام بقية شعوب العالم؟

سناك سوري-أيهم محمود
هل تكليف سيدة بتشكيل الحكومة التونسية، يمثل حقاً انتصاراً لحقوق المرأة في بلادنا المنكوبة بالعنف الموجه لها؟.
رد الفعل دائماً هزيمةٌ مؤكدة، رد الفعل الميكانيكي الذي يتطلب حتمية وجود الفعل لتشكله، إن كان رد الفعل في الفيزياء مساوياً للفعل ومعاكساً له في الاتجاه فإنه في الحياة البشرية قد يتخذ أشكالاً مختلفة من التضاد، أو التوافق مع الفعل المحرض لإطلاقه، رد الفعل ليس مبادرةً ذاتية مستقلة بل تابعٌ حتمي للفعل ولوجود من صدر عنهم الفعل، هَمُّ المهزومين الأوحد هو إثبات الاختلاف عنهم أو إثبات العكس: “التوافق والتماهي معهم”.
حين وقفت حركة طالبان أمام حقيقة خضوع كامل البلاد لسيطرتها، لم يكن في جعبتها أي برنامجٍ اقتصادي وسياسي واجتماعي سوى برنامج إطلاق اللحى وحبس النساء في المنازل حتى إشعار آخر، يسعى المهزوم دائماً إلى إثبات وجود هويةٍ له سواء بالتناقض الأعمى مع السلوك الحضاري، لدى الطرف المنتصر إنسانياً وعلمياً واجتماعياً أو بمحاولة تقليده ظاهرياً فقط مع المحافظة على قواعد النظام المتخلف وعدم وضع العصا في عش الدبابير المحلية، التهليل الذي أبدته شخصيات تسمي نفسها مثقفة لأمر تكليف سيدة بتشكيل الحكومة التونسية لا يختلف كثيراً عن محاولة إثبات طالبان لنفسها أنها لم تخضع للغرب ولا لمفاوضاتها الطويلة والمضنية معه.
في كلا الحالتين صورة الغرب وحضوره الطاغي واضحة في جسم القرار المتخذ، نحن ضدكم بشكل مطلق، أو نحن نحاول أن نكون مثلكم، كلا القرارين ردة فعلٍ لم ولن تتشكل دون وجود صورةٍ ضاغطة على الكيانات التي تعيش في منطقتنا، ردة فعل في الوقت الذي تحتاج فيه مجتمعاتنا إلى مبادرات ذاتية مستقلة وتفاعلات حضارية تستطيع إطلاق عمليات تنمية مجتمعية حقيقية واسعة النطاق للخروج من نفق التخلف والتبعية الحضارية للدول المتقدمة.
في تونس الخضراء لن يُسهم تكليف سيدة (نجلاء بودن) بتشكيل الحكومة بإنقاص معدل جرائم الشرف، أو إنقاص معدل العنف ضد النساء بشكلٍ عام، ولن يساهم هذا التعيين أيضاً بحل الأزمات الاقتصادية، لن يوقف التكليف تغلغل الحركات الدينية في المجتمع التونسي بل سيزيدها ويزيد إصرارها على الجنوح باتجاه التشدد والعنف، الأمر برمته موجهٌ للغرب وللقوى المجتمعية التي تعتبر أن الانتقال الحضاري إلى الأمام مرتبط بتقليد نمط الحياة الغربي فقط دون الدخول في تفاصيل وآليات الانتقال الحقيقي من مجتمع التشدد الديني إلى مجتمعاتٍ انفتحت نسبياً على صوت العقل، ما يجري في مجتمعاتنا الشرقية في أفضل حالاته هو طلاءٌ للوجه بهدف التجميل، كما تفعل بعض السيدات مع مساحيق الوجه قبل الخروج إلى حفلة عرس.
اقرأ أيضاً: الوباء الطائفي نفسه في صيغةٍ عكسية – أيهم محمود
لا يقل جهل اليساريين والعلمانيين في مجتمعاتنا عن جهل التنظيمات الدينية التي تسعى لإثبات مخالفتها لكل القواعد الإنسانية التي توصلت لها المجتمعات طريقاً للخروج من أزماتها المتراكمة، أحد الطرفين في مجتمعاتنا يستميت لإثبات وجود هوية مختلفة له والطرف النقيض معه يحاول إثبات هويةٍ زائفة لم تتأصل في نفسه بعد، لو كانت هوية اليساريين والعلمانيين حقيقية لما اهتموا كثيراً بأمر تكليف سيدة ولا انتقلوا مباشرة إلى نقاش البرامج الاقتصادية والاجتماعية الملحة.
الاحتفاء بتكليف سيدة برئاسة الحكومة ناتج عن فروقٍ جسمانية فقط كما تحتفي أمٌ بولادة طفلٍ ذكرٍ لها أيهم محمود
الاحتفاء بتكليف سيدة ناتج عن فروقٍ جسمانية فقط كما تحتفي أمٌ بولادة طفلٍ ذكرٍ لها، الفرق مجرد مظاهر جسدية ثانوية مقارنةً بالعقل الواحد القادر المتشابه الموجود لدى كلا الجنسين، تهليل مؤيدي التكليف على امتداد الوطن العربي يشابه تهليل المتعاطفين مع طالبان حين لم تجد هذه الأخيرة ما تقوله، سوى إصدار بيان عن ضرورة منع الحلاقين من قص لحى الرجال، يا له من أمر هام حقاً في بلد توقفت فيه الحياة الاقتصادية، وفي بلد ينتظر العالم كله القرارات التي ستصدر عنه ولو بدافع الفضول للمعرفة فقط وليس بدافع الاهتمام بهذا البلد وأحوال سكانه.
نستقلُ عن التبعية حين نفكر بحلول حقيقية لمشاكلنا المجتمعية والاقتصادية بمعزل عن وجود الغرب ووجود نموذجه، نحن لسنا مطالبين بإثبات اختلافنا معه أو تشابهنا مع نمط تقدمه، ما نحتاجه هو حلولٌ لأزماتنا سواء توافقت مع بعض مساره أو اختلفت عنه هذا أمرٌ لا يهم ولا يجب أن نقيم له وزناً، تعيين سيدة كواجهة للتجميل لن يفيد المنطقة بأسرها، هو أمرٌ فارغٌ من أي معنى حتى من بعض الدلالات الرمزية التي يصر بعض المثقفين على وجودها.
هذا التكليف في الواقع مجرد إثبات جديد على الخواء الحضاري والفكري لنخبنا واكتفائهم بمساحيق التجميل، مازلنا ننتظر ولادة نخبٍ قادرة على اجتراح معجزة التغيير الحقيقي والعميق في مجتمعاتها، عند انجاز ذلك سنجد أنفسنا غير مهتمين بتكليف سيدة أو رجل فالفرق بينهما بعض المظاهر الجنسية الثانوية التي لا تستحق التوقف عندها أمام حضور العقل وحضور البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية التي يحملها المكلف في جعبته ويحمل معها أيضاً تصورات دقيقة لآليات تحقيق هذه البرامج، عند تحقق هذه الصورة المستقلة عن أي تبعية -غربيةً كانت أم شرقية- نكون قد خرجنا من واقع هزائمنا الحضارية أمام بقية شعوب العالم، أما ما نشاهده الآن من ابتهاج البعض لهذا التكليف ما هو إلا مجرد استقبالٍ غير موفق لهزيمةٍ أخرى في انتظار فجرٍ حضاري حقيقي ما زال بعيد المنال.
اقرأ أيضاً: امتلاك السلطة ليس كافياً لإحداث التغيير – أيهم محمود