الرئيسيةرأي وتحليل

القضاء على الشهامة – أيهم محمود

كيف استطاع المجتمع السوري القضاء على إنسانية أفراده؟

سناك سوري-أيهم محمود

تعرفتُ على المكان في صورةٍ منشورة على موقع فيسبوك، كان الرجل السبعيني ممدداً في وسط الشارع ينزف، لم يكن المكان الذي رأيته في الصورة بعيداً عن منزلي، سيارة مسرعة صدمته دون أن يتوقف السائق ليسعف ضحية رعونته، المارة اكتفوا باستدعاء الإسعاف، لن يجرؤ أحد على إيقاف أي سيارة عابرة ونقله للمشفى، لن يغامر أحد في هذه الظروف الصعبة ويتعرض للأسئلة والاتهام وربما إلى التوقيف، لقد تم القضاء على الشهامة في مجتمعاتٍ كانت تتفاخر بها.

سبق أن كتبت مقالاً عن مرض الذئبة الحمامية في المجتمع السوري، عندما تتوحش الخلايا المدافعة عن الجسم وتزداد حساسيتها فتهاجم خلايا الجسم نفسه إضافةً إلى مهاجمة الجراثيم فتقتله بدلاً أن تحميه، ما حدث في مجتمعنا أنه انتقل بشكلٍ مرضي إلى ثقافة التخوين، تفككت روابطه، تفككت محاسن أخلاقه، الكل يشك بالكل، يشك المسؤول بالمواطنين، ويشكك المواطن بالمسؤولين، لا أحد يثق بالآخر.

التوقيف في المحاكم أصبح عرفاً عاماً يصفه القاضي كدواء لكل الأمراض مثلما يصف الطبيب خافضات الحرارة لإسكات شكوى المريض دون أن يخصص وقتاً كافياً للتدقيق في حالته الصحية وتشخيص مرضه، يقف الشرطي في القضايا المدنية اليومية البسيطة حائراً بعد أن تم إلقاء المسؤولية كلها عليه، ليس لديه أدوات غير السجن فلقد تخلت كثير من قوى المجتمع وهياكله التنظيمية عن واجباتها وتركوه وحيداً في معركةٍ خاسرة، لن أتحدث عن الفساد المرافق لبعض هذه القضايا وسأفترض حسن نية جميع الأطراف، لقد تم ترك الخلايا الدفاعية وحدها دون إدارة واعية تنظم عملها وهذا بالضبط السرطان القاتل المعروف باسم الذئبة الحمامية.

اقرأ أيضاً: المنظومة العلمية وإغواء الشهرة_ أيهم محمود

حين يصبح كل مواطن وكل إنسان وكل فرد في المجتمع مدان عليه أن يُثبت يومياً براءته، لا يمكن أن تستقيم الحياة مع هوس الشك، عندما يشك أحد الزوجين بشكل دائم بسلوك الطرف الآخر يدمر حياته وحياة شريكه وحياة أطفاله، الشك يعني عدم وجود الاحترام المتبادل بين أطراف العلاقة، هو زواجٌ بالإكراه وهذا هو التوصيف المهذب جداً لما يجري في مجتمعنا، أن نترك رجلاً يئن وينزف في الطريق وربما يصل للموت يعني أننا مجتمعٌ عاجز ومعاق قضى على أجمل أخلاقه وخصائله المميزة، هل هناك أقبح من مشهد رجل في السبعين من عمره يئن في وسط طريق دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه.

يبدأ الإصلاح بمحاكمة كل من يسجن بريئاً بلا سبب، ويبدأ بوضع نقاط سلبية تؤخر ترقية كل قاضي يُغلّب الشك على نية وواجب العدل، يبدأ الإصلاح المجتمعي بإدانة وتجريم كل زوجٍ يقضي حياته كلها في محاولة القبض على زوجته بالجرم المشهود، يبدأ بإدانة كل مواطن يفترض أن فيه كل الخير وأن الشر كله يتوطن في المسؤولين وفي أهله وأخوته في مواقع القرار، يبدأ بإدانة كل مسؤول يفترض أن الشر في المجتمع تغلب على الخير فيه وأنه الوحيد بين الجموع يحافظ على المجتمع من الانهيار، يجب تجريم فعل الشك لدى جميع الأطراف وإدانته كعملٍ بغيض أخلاقياً له تأثيرات ضارة بل قاتلة على بنية المجتمع.

آن لهذا الجنون أن يتوقف، آن لنا أن نعود كما كنا سابقاً، لا أتحدث عن مجتمعاتٍ خيالية بل أتحدث عن المجتمع السوري نفسه قبل عدة عقود من الآن، قبل أن تدمر السلوكيات القاتلة أفضل خصائصه المميزة، لا يكفي إصدار تعميم خجول بعدم إيقاف من يسعف مصاباً بل يجب إصدار قوانين رادعة تسجن كل من يضع شخصاً في السجن بغير حق، يجب ردع فعل الاستهتار بكرامة الأفراد ويجب إيقاف مرض الشك ومنعه من تفكيك ما تبقى من تماسك السوريين.

اقرأ أيضاً: طروادة الأمريكية بوابة الرئيس ترامب – أيهم محمود

الشفافية والعلنية والصدق بدلاً من الشعارات والحديث في الخفاء، الضوء يمنع عفن الشك، الإعلام المستقل والقضاء المستقل، مراجعة القوانين مراجعةً جذرية لإلغاء ثغراتها هو الذي يحمي كل موظف وكل إدارة وكل مسؤول، حرية الصحافة تحمي الجميع من مرض الشك القاتل، حرية اختيار الشريك تمنع الكثير من المشاكل الزوجية وكذلك تفعل حرية الانفصال المحترم في حال الاختلاف.

قبول فكرة أن الحياة متبدلة ومتغيرة وأن حركة التناقضات فيها هي الحياة نفسها وأن الانتظام القاتل المفضي للسكون مرادفٌ حتمي للموت، نحن أمام مشكلة حقيقية تتجاوز السياسي بكثير، نحن أمام مشكلة مجتمعية على الجميع أن يكون جريئاً في توصيفها والتعاطي معها بروحٍ مسؤولة وبرغبةٍ صادقة في العودة بمجتمعنا إلى زمن ما قبل الشك، إلى زمنٍ يشعر الجميع فيه بالعار والمسؤولية عندما تمر صورة رجل مرمي في قارعة طريق ينزف والناس حوله تكتفي برؤيته أو تعبر من قربه دون أن تراه أو حتى تنظر إليه.

اقرأ أيضاً: حين لم تلتفت زها حديد إلى الوراء – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى