قبل الاعتراض الذي سجلته نقابة الفنانين في سوريا على استخدام الألفاظ النابية في الأغاني. كان هناك في مصر مجموعة اعتراضات من قبل النقابة أثارت ضجة كبيرة في حينها.
سناك سوري-أيهم محمود
في نهاية الاعتراض السوري تم نشر صور تجمع نقيب الفنانين محسن غازي مع ريم السواس وسارة زكريا. مع الإشارة إلى تعهدهما أمام النقابة بعدم استخدام الألفاظ النابية في حفلاتهما. يستنتج المشاهد للصور بعد رؤية الابتسامات الهادئة والسعيدة فيها أن الخلاف تمت تسويته وأن القضية هي مسألة قواعد وضوابط بسيطة يجب الالتزام بها. سواء في سوريا، أو في مصر، أو في كل بلد يسير على خطانا الرائدة في انجاز التحولات الاجتماعية الخاصة التي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي ومازالت تتطور وتتصاعد حتى الآن.
يجب الإشارة في بداية هذا المقال إلى عدم وجود ارتباط مباشر بين نوع الغناء الذي يسمعه الإنسان وبين تفاعله الإنساني الجيد أو السيء مع المجتمع. كثير من الذي استمعوا للموسيقا الكلاسيكية ارتكبوا مجازر عالمية، أو كانوا عنصريين وقتلة ولم تساهم الموسيقا في تهذيب نفوسهم. الثقافة والوعي جهد إنساني طويل لا يقتصر على جانب واحد فقط بل هو نشاط متعدد الأوجه، يمتلك معظم من يستمعون للأغاني الشعبية قاعدة أخلاقية قوية ومهمة تستحق الاحترام العميق. لكن المشكلة ليست هنا إنما في القوى التي تدعم هؤلاء الفنانين الذين هم جزء صغير جداً من مشهد ثقافي واقتصادي متكامل لم يتم دراسته وتوصيفه بشكل جيد.
تختلف القوى الاجتماعية التي دفعت بأم كلثوم وفيروز وصباح فخري ومحمد عبد الوهاب و فريد الأطرش وغيرهم إلى واجهة المجتمعات العربية. عن القوى الاجتماعية التي تدفع وتحمي مطربي المهرجانات في مصر، ومطربي الموضة الجديدة في سوريا ولبنان. اللتان قسمتهما الحدود السياسية لكنها لم تستطع إلغاء تحولات الاندماج الثقافي الذي يسير بخطى متسارعة رغم المحاولات التاريخية لإحداث تباعد لبناني ما عن محيطه الشرقي العام.
اقرأ أيضاً: سوريا الحالمة لا تميز بين غنيٍ وفقير – أيهم محمود
نتحدث هنا عن التحولات الاقتصادية بشكل خاص ومحدد، التحولات التي دفعت شريحة غير تقليدية إلى واجهة الحياة الاقتصادية في مجتمعاتها، وبالتالي واجهة النفوذ، والقوة، والسيطرة على بقية القوى والتيارات الاجتماعية. الاعتراض الذي أثارته شرائح من المجتمع على شكل ومضمون بعض الأغاني في سوريا، تمت مواجهته برد فعل لا يتناسب مع صورة خلاف بين أذواق فنية، فهو في جوهره ليس كذلك، بل هو خلاف بين تيارات اجتماعية متصارعة. فهمته جيداً قوى الوضع الراهن، لذلك تصر على الدعم اللامحدود -المخفي او العلني- لأدواتها الثقافية في المجتمع.
القوة الناعمة ليس مصطلح خاص ببلدنا أو بمنطقتنا العربية، بل هو مفهوم عالمي صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. الفن والموسيقا والأدب وسائر الأعمال الفنية والثقافية أسلحة تستخدمها القوى المتصارعة في المجتمعات البشرية لحسم نتيجة الصراع لصالحها. لا نبدع رأياً جديداً في هذا المقال، بل نوظف ما هو معرف جيداً، في تحليل ردة فعل من فهموا جيداً رسائل رفض بعد المظاهر الثقافية في المنطقة، فكانت صيغة ردهم التأكيد على مسألة سيطرتهم الاقتصادية التي لا يجب أن تكون موضع شك. والتأكيد أيضاً على قدرتهم الجيدة على حماية أدواتهم الثقافية، ليس في الغناء وحده، بل في كافة مظاهر ومجالات القوة الناعمة.
هذه التمردات في المجال الآمن للحوار المجتمعي تدل على تحولات اجتماعية تنضج تحت الرماد، وهي تهدد القوى الحالية المسيطرة اقتصادياً بتخفيض حصتها المالية والاجتماعية. لذلك نتوقع اشتداد المواجهات الثقافية مع وصول النظريات العالمية حالياً إلى طرق مسدودة في مواجهتها الأزمات البيئية وضرورات بقاء الجنس البشري على قيد الحياة.
إن كان هذا الحال عالمياً فكيف سيكون الحال في مجتمعات تعمل الكثير من قواها الاقتصادية الفاعلة في مجال الخدمات التي تستنزف مقدرات قوى الانتاج الفعلي. مما يدفع هذه الأخيرة نحو التفكك والتحلل، نستمع اليوم إلى معارضات ثقافية خجولة في مقابل زيادة حادة في هذه الألوان الغنائية الجديدة.
لم يتوقف الغناء الشعبي في تاريخنا الحديث، لكنه كان مرتبطاً بألحان وكلمات بسيطة تناسب واقع الطبقات التي تكدح طوال النهار وتحتاج هذه البساطة في غنائها. ما حدث اليوم هو انتقال غناء الملاهي الليلية وبعض ألوان الغناء ذو المناطقية المفرطة، ليصبح تحت اسم غناء شعبي، هناك فرق هائل بين أغنية فلاح في الحقل، أو أغنية عامل بسيط في المدن، وبين أغنية تناسب أفراداً اكتشفوا امتلاكهم للكثير من المال غير القابل للتوظيف في شركات تكنولوجية رائدة. تحقق أرباحاً خيالية للمستثمر فيها، كما فعلت شركات التكنولوجيا الأمريكيه، لذلك لم يكن أمامهم خيارات أخرى سوى صرف هذا المال والاستمتاع به. وتأكيد هويتهم الثقافية بشكل حاد عند محاولة البعض الطامع بما لديهم التشكيك بحقهم الطبيعي في النجاح وفي التمدد.
اقرأ أيضاً: مأساة تلاميذنا حين يصدقون بعض ما يقرؤونه في المدرسة – أيهم محمود