أخر الأخبار

الجياع يثورون – ناجي سعيد

ليس عيبًا أن تحرّك حاجة الناس الفيزيولوجيّة (الجوع) وتقودهم إلى ثورة

سناك سوري – ناجي سعيد

أعتقد أنه من الطبيعي أن تربط مُخيّلتي الأحداث التي أمرّ بها يوميًّا، بأحداث القصص التي أقرأ، وأُسقطها عليها. فمنذ فترة قرأت قصّة “عائد إلى حيفا” للكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني، والذي أعتبره من خلال قراءتي لمعظم كتبه بأنّه يروي الواقع بنظرة فلسفية تتضمّن موقفه من الحياة والوطن والحب والخيانة وما إلى هناك من قضايا إنسانيّة.
وما يحصل في لبنان جعلني أتخيّل:”عندما أتنقّل أسبوعيًّا من الجنوب(صور) حيث تقطن عائلتي إلى بيروت (فرن الشباك) حيث استأجرتُ شقة مع أصدقائي قريبة من مقرّ عملي، تُريحني من الذهاب والعودة يوميًّا “بالفان” من صور إلى بيروت وبالعكس.. هل سيأتي يومُ لا أخفي فيه الشعور الذي ينتابني بأنّي انتقل من دولة إلى دولة، (كما شعر سعيد خلال رحلته من رام الله إلى حيفا )؟.

الحقيقة أنها ليست مزحة أو دعابة سياسية. فما أتخيّله هو حُلمي الذي أتمنّى تحقيقه يومًا ما. وقد ساهمت تربيتي في نسج هذا الحلم. أن أكون مواطنًا لبنانيًّا. والمُضحك المبكي في وضعنا، هو أن أحلامُنا هي مجرّد حقوق في الدُول المُتقدّمة (كي لا أقول الغربية).
لقد بذل والدي “يوسف” جهده في أن يبني في نفوس أفراد العائلة المُكوّنة من سبعة أبناء (خمسة ذكور وأنثيين) مفهوم المواطنة، مُستندًا على قيم عَرفتُ لاحقًا، عندما خضت مجال العمل الإنساني الاجتماعي وتفتّح وعيي، بأن هذه هي القيم التي ترسم إطار مفهوم المواطنة. فعلى الرغم من أنّ مكان ولادتنا كعائلة هو العاصمة بيروت، وجذور العائلة من قرية جنوبية بعيدة عن حدود فلسطين المُحتلّة بحوالي الخمسين كيلومتر، فقد سعى الوالد بالتعامل مع العائلة ضمن معايير تربوية لا تخضع للواقع التقسيمي المُعاش.
لقد كان أخوتي الأكبر سنًا ينهرونا حين نقول عن مدرّس يُدرسنا بأنه “مسيحي”، وكانوا يحاولون إفهامنا بأن لا يهم الإنسان لأي طائفة ينتمي طالما هو إنسان ويؤدّي واجبه المهني بإنسانية. وهذا ما جعلني -ولو مُتأخّرًا- أفكّر بهذه الأحداث الصغيرة التي اكتسبها إخوتي من أبي وأمي لنشر جوّ سليم في العائلة. وأقصد عائلتنا الصغيرة طبعًا، أب وأم وسبعة أولاد. فلم يطمح أبي إلى تغيير العالم، أو حتى عالم عائلتنا الصغير. فلم يعطِ نفسَه الحقّ في فرض قيمه ومبادئه على أحدٍ من إخوته.

اقرأ أيضاً: الحرية مسألة لاعنفية .. ناجي سعيد

كُلّ ما كان يحدُث المسار الطبيعي الذي يُمكن أن نعتبره جزءًا من ثقافة شعبية تنمو بالتواتر بين الناس، فقد كان الأقارب كما الجيران والعائلات التي تعرفنا، أن يتغنّوا بأخلاق عائلتنا، لا بل يضربوا المثل خلال تربيتهم لآطفالهم بأن يقولوا: “يا ريت تكونوا متل ولاد بوعادل”. أبو عادل هو والدي بالطبع. كم أشعر بالفخر والسعادة لأن والدي الآن وقد بلغ الثامنة والثمانين (أطال الله بعمره) لو قرأ هذه السطور سيشعر بأن ما زرعه فينا أطفالاً، لم نجنِ نحن فقط ثماره، بل الوطن بأكمله وبأبنائه يجني ثمارًا، آمن بها أبي وأعطانا الوعي والقدرة على الإيمان بها. وحتّى لو القدرة كانت محدودة بالمساحة الخاصة الشخصية يومًا ما، لكنّ المهمّ بأنها الآن طالت أرجاء الوطن كافّةً.
الوطن ليس بالسياحة من الجبل إلى الشاطئ، بل بمكوّناته المتنوّعة التي انصهرت في حدود مفهوم المواطنة، وانعكس التضامن بين المناطق بالهتاف من حناجر أهل عكّار ينشدون: “كرمال عيونك يا صور عكّار كلّها عم بتثور”.. وغيرها من المناطق التي استفاقت من السُبات العميق التي كان يسيطر على عقولها. وليس عيبًا أن تحرّك حاجة الناس الفيزيولوجيّة (الجوع) وتقودهم إلى ثورة، نعم ثورة بكل ما للكلمة من معنى، فقد كسر الناس الأيقونات التي صنعوها من خوفهم وطاعتهم وخضوعهم، وتغلّبت حاجتهم إلى الحرية واستقلالية القرار والسيادة الشعبية على ما كانوا يعتقدون بأنه صالحهم فقد كسروا المثل الشعبي القائل: “.. الحيط الحيط ويا ربّ توصّلني عالبيت”. فقد كسروا هذا “الحيط” الوهمي الذي بُني بخوفهم من السلطة الحاكمة الفاسدة.
أذكر ما يقوله صديق باحث وهو دكتور جامعي من فلسطين د. منير فاشة: “الناس نوعان واهم وفاهم”.. وأعتقد مايجب أن يفهم اليوم هو أن “الجياع يثورون، وأن الطاعة لا تستمر، وأن المظلومين لابد أن يثوروا على الظلم”.

اقرأ أيضاً: التمرد على الطاعة في لبنان… ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى