الرئيسيةرأي وتحليل

مدن الملح تنتظر زوالها- أيهم محمود

الكاتب: لا عودة إلى عصور الوفرة والرفاهية

“التيه”.. أستعير اسم خماسية “عبد الرحمن منيف” و”التيهُ” أول أجزائها، اسم الروايةِ روايةٌ أخرى مكتملة الأركان، تكثيفُ المعنى في قطرة، لا يوجد اختصارٌ أكثرَ كثافةً من اسم الرواية سوى اسم جزئها الأول “التيه”، لقد اعتقد الكثير من قراء هذا العمل أن موضوع الرواية دول الخليج بعد اكتشاف النفط، هذا موضوع الرواية فعلاً، وربما هذا الأمر هو ما كان يدور في عقل الأديب عند كتابته لها.

سناك سوري-أيهم محمود

الروائي الذي يغرق في تفاصيل عمله لا يرى البعد الإنساني الشامل له، خبير النفط عبد الرحمن منيف -والروائي أيضاً- اختصر الكلام كله بمدنٍ سوف تذوب مع أول هطولٍ غزيرٍ للمطر، مدنٌ ستختفي عن وجه العالم، مدن الأوهام الكبرى التي ستبددها الحقيقة العارية، المطر يحمل تكثيفاً عالي القيمة من الرموز الإنسانية الكبرى بعضها جنسي وبعضها ثوري إضافةً إلى عشرات المعاني الأخرى، هو أحد الرموز القديمة جداً، هو الوعد بتغييرٍ حتمي قادم مهما طال زمن الجفاف وزمن احتباس المطر، حدثٌ وحيدٌ تختفي بعده كل أوهامنا وتختفي معه أيضاً رفاهيتنا المزعومة، رفاهية الكذب على النفس قبل الكذب على الآخرين.

اقرأ أيضاً: إمبريالية بالخل والبصل – أيهم محمود

مدن الملح تنتظر زوالها، لقد فضحت الحرب الأوكرانية الحالية هشاشة العالم حولنا، لم يختفِ النفط، بل اضطربت إمدادات أحد مصادره فقط فترنحت دول كثيرة في هذا العالم، علومٌ وأبحاث وعلماء تحولوا إلى ما يشبه شيوخ الدين في طمأنة العامة إلى أن حياتهم لن تتغير، ورفاهيتهم لن تتغير، وهذا مجرد تضليل متعمد للناس، مازالت الطاقة البديلة تعاني من أزمات متلاحقة، لا أحد يقارن بين الطاقة المصروفة على  تصنيع أدوات الطاقة البديلة مع الطاقة الكلية المستخلصة منها ليعلم مقدار الربح الفعلي المتاحة للاستخدام.

مدن الملح ليست مدن الصحراء العربية التي تم انتزاع شعوبها من توازنهم مع موارد البيئة المحيطة بهم وإسكانهم في مدن الرفاهية الآنية التي ستعجز لاحقاً عن تأمين توازنها مع موارد الطبيعة لأنها مرتبطة ارتباطاً عضويا بزمن وفرة النفط، وزواله يعني حتماً زوالها أيضاً، ليست مدن صحرائنا الذهبية وحدها المصنوعة من الملح، بل معظم مدن العالم بنسب متفاوتة، عالمنا الحالي كله من الملح، حقق وفرته الحالية من حرق طاقةٍ تراكمت خلال ملايين السنين خلال بضع عشرات منها.

ستعود مدن الملح إلى حجمها الطبيعي من حيث قدرتها على استيعاب عدد محدد من السكان وتأمين احتياجاتهم الحياتية، وأيضاً من ناحية مقدار الطاقة المسموحة للأفراد بعد انتهاء عصر طفرة وفرتها، مدن الملح تكثيفٌ لشكل العالم بأسره بعد انتهاء حقبة الوقود الأحفوري، رمزُ عالمٍ هش سريع العطب، وأما التيه فهي حالة أولئك الذين يعتقدون بإمكانية العودة إلى عصور الوفرة والرفاهية.

اقرأ أيضاً: التفاصيل الخفية لواقعة قتل أفعى – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى