علاقة اللاعنف بالاستعمار _ ناجي سعيد
هل اللاعنف هو ردّة فعل على الأعمال العنفيّة؟
سناك سوري- ناجي سعيد
لقد اعتدتُ أن أبحث بدقّة عمّا أريد الكتابة عنه. وقد خطر ببالي بعد أن بحثتُ عن عدّة مناضلين لا عنفيين، حيثُ كان لهم أثر لافت في حياة شعبهم ووطنهم، أن أسأل نفسي لماذا لا يسطع نجم المناضلين اللاعنفيين إلا تحت سماءِ بلدٍ عانى من الإستعمار لحقبة طويلة من الزمن؟ وتلقائيًّا ذهبتُ للبحث عن فكرة طرحها فلاسفة اللاعنف، هل اللاعنف هو ردّة فعل على الأعمال العنفيّة؟ أم هو مُتجذّر داخل الإنسان ويفضي بنا إلى طبيعة الإنسان الخيّرة؟
وقد ربطت في بحثي بين طبيعة الإنسان الفطرية التي خُلقَت معه، وبين الدلالات اللغوية في المعاجم والتي تشير إلى هذه الفطرية العفوية. وقد بحثت عن كلمة “أس” ووجدت ما يلي: “الأُسُّ والأَسَس والأَساس: كل مُبْتَدَإِ شيءٍ. والأُسُّ والأَساس: أَصل البناء، والأَسَسُ مقصور منه، وجمع الأُسِّ إِساس مثل عُسّ وعِساس، وجمع الأَساس أُسس مثل قَذال وقُذُل، وجمع الأَسَس آساس مثل سببٍ وأَسباب. والأَسيس: أَصل كل شيء.
وأُسّ الإِنسان: قلبه لأَنه أَول مُتَكَوّن في الرحم، وهو من الأَسماء المشتركة.
وأُسُّ البناء: مُبْتَدَؤُه؛”..
اقرأ أيضاً: شافيز..الجنرال اللاعنفي_ ناجي سعيد
وقد لفتني من المعاني الواردة أعلاه، بأن “أس” الإنسان هو قلبه والقلب هو أوّل عضو مُتكوّن في الرحم عند الجنين.. وأس البناء مبتدؤهُ.. ولهذا دلالة واضحة وأعتقد معنىً عميقًا قَصَدَهُ من أطلق على الوجود الغاصب للبريطانيين والفرنسيين في شرقنا: “إستعمار”!!! حيث تُعتبر الدولتان من الدول المتقدّمة والحضارية – مع اعتراضي على مصطلح “حضارية” فهو مُشتق من “حضارة” وقلّ من يفتقد لوجود حضارة لدولته- لكن العبرة في قَدم الحضارات ومواردها الثقافية والتاريخية والقدرة على حسن إدارتها من الدول الحالية طمعًا في الحصول على عالم لاعنفي يميل إلى المثاليّة.
لكن العنف أعمى قلوب وعيون “الحضاريين” فجعلَ لغة العنف سائدة بين الظالم والمظلوم، وهذا ما دمّر جسر التواصل بين الدولتين واللتان تُمثّلان حضارتين. فكيف لشعبٍ أن يسكت عن خطأ لا بل خطيئة شعبٍ آخر، ويمضي قُدمًا في التبادل الثقافي الحضاري. قبل أن يُفكّر الإنسان بمنهجيّة اللاعنف وفلسفتها، لا بُدّ أن يكون مواطنًا فخورًا بمواطنته أمام كلّ الناس. وبالطبع فلا يُعيبه حرّيةً موصومةً بتبعيّة أجنبية تحت غطاء “سلام دُولي” يخضع لسيطرة ميزان قوى دولي حسابته “في الحقل” تختلف عن حسابات البيدر.
نعم فالسلام الدولي خرّبت مقاييسَه علاقاتُ المصالح المادية التي تركع لسطوة “دولار” يرقص على أنقاض جثث عُملتنا الوطنية. هذا التعبير لا يعني للصرّاف الذي باع ضميره الوطني فجرفه تيّار مدمّر لإقتصاد الوطن. وفي الوقتِ عينه لا يعني كلامي أيضًا “جارنا الدكّنجي”، صاحب الضمير الحيّ. فضميرُه محفوظٌ في ثلاّجة “البوظة” ولا يموت. فما زال يبيع “حبّة البوظة” بسعرها الزهيد، فهو لا يستغلّ ولا يحتكر.
اقرأ أيضاً: عن عُنف الشارِع والجوع وسوء السلطة – ناجي سعيد
ولو كان حديثنا عن العنف بشكل أساسي فالإحتكار نوعُ من أنواع العنف، يؤذي الأمان الإقتصادي المنشود والذي يؤسّس لمواطنة فاعلة في مجتمع آمن وأمين. وكم هي كبيرة المسؤولية الفردية التي تُشكّل الأُسّ للمسؤولية الجماعية الوطنية. نعم فمن المُعيب أن “تدرُج” كلمة مؤذية يفرحون بها الناس ويردّدونها دون معرفة معناها: “شو وقفت عليّي”!! نعم فالمسؤوليّة الفردية تُحتّم بالوقف عليك وعلى كل فرد. فلنعمل على وضع ضميرنا في الثلاّجة، لكي نبقيه حيًّا طوال الوقت، فهو لا ينتمي إلى الحلوى المُثلّجة نلتهمها بعد أول مفترق مشكلة إقتصادية تواجهنا. اعذروني لستُ واعظًا، لكنّ الضمير الإنساني البعيد عن الإنقسامات هو الذي يحرّك مسار عملي وحياتي الشخصية أيضًا. ولا أنسى أبدًا حين كنت أساعد أبي في الفرن وأنا في سن المراهقة، كيف كان يحمل همًّا كبيرًا لإعلام الزبائن بأن الأسعار زادت فمنقوشة الزعتر الأرخص من الجبنة زادت هي أيضًا فقد زاد سعر الطحين. هذا وقد طلب منّي أبي أن أكتب على لوح كرتون (فأنا بارع بالخطّ العربي والكتابة) لجارنا اللحّام، فقد تعب من “نق” العالم حين يعرفون بأن سعر كيلو اللحم زاد، وكان أبي قدّ ألّف هذه “الردّة”:
بدّي منّك يا شاري
إن كنّك خيّي أو جاري
في تسعيرة قدّامك
خود بقدّ المصاري.
لا أعتقد أن الموهبة كفيلة لوحدها بمواجهة الإستعمار، لكنّ من الطبيعي أن يُقدّر الإنسان ذاته، فيحميها من التبعيّة. والتبعيّة للخارج تبدأ بالتبعيّة لأشخاص، لذا أقدّر وأحترم ما فعل أبي بأن كان حريصًا في تربيته لي بأن أهتمّ بإثبات ذاتي بين الستّة أخوة، ولم يقلّل إثبات الذات من تقدير واحترام أخوة لي. تحرّر الذات هو الطريق إلى تحرّر الأوطان.
اقرأ أيضاً: العقل والعقلانية في التصرّف أثناء الأزمات-ناجي سعيد