الرئيسيةرأي وتحليل

اللاعنف يحتاج قراراً ليس فقط تعليماً – ناجي سعيد

كيف يمكن أن يكون الشخص عنيفًا ويتحوّل إلى إنسان لاعنفي؟

سناك سوري-ناجي سعيد

بعد أن علِم صديقي بأنّي أدرُس فلسفة وتربية اللاعنف في الجامعة، سألني بشكلٍ عفوي: وهل اللاعنف مادة يتعلّمَها الإنسان؟ كيف يمكن أن يكون الشخص عنيفًا ويتحوّل إلى إنسان لاعنفي؟.

ليس هذا منطق معالجة السؤال، فقبل أن نجد جوابًا للسؤال، لا بُدّ من التذكير بماهيّة اللاعنف، فالكلّ يعرف بأنّ اللاعنف كفلسفة، هو مفهوم يُعاش ويُكتسب من التجارب الحياتيّة، ولا يمكن تدريسه، خاصّةً لو كان الشخص (المُدرّس) لا يؤمن باللاعنف.

ولكن هناك استراتيجيّات لاعنفيّة يمكن تدريسها بالطبع، لكنّ، للأسف يعيبها سوء استخدامها، أو بالأحرى، استخدامها من أشخاص وجماعات عنيفة، تستخدم هذه الاستراتيجيّات بهدف وصولي قمعي، “للسيطرة على” و “التحكم بـ “. لكنّ المدخل الحقيقي لهذا المسار (تعلّم اللاعنف)، هو التأكّد من صِحّة واتّزان الشخصيّة الراغبة في تعلّم اللاعنف، فمن تعلّم استراتيجيّات لاعنفيّة ليحقّق أهدافه العنيفة، لا يأبه بالتأكّد من صحّة ذاته.

نعم فالشخصية التي تودّ تعلّم اللاعنف، وهي تضمر عنفًا بداخلها، تعاني مرضًا وخللاً نفسيًّا. فالاتّزان الشخصي المطلوب ليس مُجرّد رفاهيّة، لا بل ضرورة لتأمين البيئة الصحيّة التي تفسح المجال للإنسان الذي اختار اللاعنف، أن يتعلّم اللاعنف ويكتسب الخبرات ليطوّر لاعنفيّته. فاللاعنف، ليس كيمياء أو فيزياء، يستخدمه الإنسان بشكل فردي ليمتهن مهنةً في مجال محدّد. وليست مُبالغة برأيي، فاللاعنف هو اختصاص حياة، وليس اختصاصًا أكاديميًّا. والسبب بأن مكوّنات اللاعنف لا تقتصر على: طالب ومُعلّم داخل قاعة الصفّ. فالطالب اللاعنفي، لو حدث أن درس اللاعنف (كما مبادرة أوغاريت يونان ووليد صليبي في تأسيس جامعة أونور) فاكتساب اللاعنف لا ينحصر في الاطلاع على تجارب مناضلين لاعنفيين تاريخيّة، وثورات وإنجازات شعوب.

الخطوة التالية بعد معرفة التجارب السابقة، هي التفكير بعقلانيّة دون انفعالات عاطفيّة وتهوّر، وهذه الخطوة تتطلّب التفكير ضمن السياق المطلوب إحداث تغيير فيه. وفكرة ابتكار نشاط لاعنفي، لا تنفصل عن الواقع، وهذا الواقع مرتبط بسياق مجتمعي يستند على موروثات تاريخيّة لهذا المجتمع. فلا يُمكن، أو من شبه المُستحيل، أن تُنفّذ التحرّك اللاعنفيّ مجموعة من الناشطين، المحاطين ببيئة عنيفة، فُيصبح المندسّون جزءا من أساس تحرّكهم ليس من إعداد السلطة، فتكون القصّة كما يُقال: “دود الخلّ منّه وفيه”!!!”.

اقرأ أيضاً: حكايتي مع الحادث الذي أدخلني غيبوبة لـ3 أسابيع-ناجي سعيد

القيم الإنسانيّة من الطبيعة الخيّرة عند البشر، وهي تُشكّل منظومة داخل نفس الإنسان، تحرّك اهتماماته وميوله نحو الغوص أكثر فأكثر في الإيجابيّة، فتراه يحاول أن ينهل من نبع المعرفة اللاعنفيّة. كي لا أكون مُجحفًا بحقّ أحد، قد يطرأ حادثًا في حياة إنسانٍ ما، يحوّل قناعاته من العنف إلى اللاعنف. وقد تعرّفت في جامعة “أونور” على زملاء من فلسطين المُحتلّة، اختاروا مسار النضال اللاعنفي، بعد خوض المقاومة المسلّحة التي أنتجت القتل والضحايا، حتّى لو زُيّنت الضحايا باللقب الأيديولوجي: “شهيد”، فالشهيد كما قال النبيّ محمد:”.. من مات غرقًا أو حرقًا فهو شهيد”.

وما زالوا يتابعون مسار التعلّم اللاعنفي، وهذا ليس هواية أو رغبة، بل قناعة نابعة عن تجربة. قد تكون نتيجة اللاعنف أكثر فائدة وإصلاحًا للمجتمع العنيف لو كانت من أساسات التربية للأطفال، ولكنّ من سيكون محظوظًا مثلنا (أنا وأخي) ليرسل لهم الله والدًا لاعنفيًّا بالفطرة والطبيعة، فيبتكر طريقة عمليّة واقعيّة ليجعلنا نفكّر ونتعلّم باللاعنف: فقد طلب منا أن نجلس أمامه، وصفع كلّ منّا “كفًّا” على وجنته، وقال: أريد أن أعرف كيف ستكون ردّة فعلكما حين تتعرّضان للضرب؟.

لم يكُن بوسعنا كطفلين لم يتجاوزا السنين العشرة، إلاّ أن يذهبا من أمام والدهما، ليفكّرا في مسار حياتهما، هل خيار اللاعنف بنّاء؟ ولو لم يختر أحدهما اللاعنف اختصاصًا يدرسه، لكن سيكون الفرق هائلاً، وسينتج مُدرّس أو مهندس أو طبيب…مفيدًا لمُجتمعه، مُستندًا على علاقات سويّة مع أفراد مجتمعه، تحكم هذه العلاقات عقلانية مربوطة بتفكير يلزم إدارة السلوك البشري.

اقرأ أيضاً: اللاعنفي ليس سوبرمان من كوكب كريبتون – ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى