الرئيسيةرأي وتحليل

الهوية لاتلغي هوية.. العنف وحده يجعل كل الهويات قاتلة-ناجي سعيد

الجوعان ما بيأوي جوعان.. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!

سناك سوري-ناجي سعيد

تتحرّك مشاعر الناس عند حدوث الأزمات، وهذا حدث طبيعي. ومن أكثر الأزمات أثرًا على الناس، هي اضطرار ترك الناس الأمكنة التي وُلدوا وترعرعوا فيها، وهذا ما ندعوه “لجوء”، وهذا موضوع المقال.

لكن، ومن زاوية التمسّك بالهويّة، اللجوء مفهوم يختلف عن النزوح، فالنزوح مثلاً هو مسألة اضطراريّة، لكنّ لا تتعلّق بالحالة الأمنية. فالنزوح غالبًا، ينحصر بالمستوى الاقتصادي لدى العائلات، وتحديدًا العائلات القرويّة، تلك التي لم يعد محصول الزراعة يكفيها لسدّ رمقها. وقد ينزح بعضًا من الشباب مؤقّتًا، بحثًا عن العلم أو العمل.

أمّا ما أودّ الكتابة عنه اليوم، هو موضوع لفتني، خلال تدريب أقوم به (أنا وفريق مدرّبين) لمجموعة من اللاجئات السوريات من منطقة شتورا. فالبرنامج الذي أعددْناه بعد معرفة الحاجات التدريبية للمتدرّبات، اتّسم بالواقعيّة. وما أكّد هذه الواقعيّة هو المقاربة التشاركيّة التي نتّبعها في التدريب. وهذا إيمانًا منّا بأنّ التغيير الذي نصبو إليه، يكون ناقصًا لو لم يكن تشاركيا مع جميع الأطراف. وقد أشعرت هذه المقاربةُ التشاركيّة الجميعَ بالأمان. حيثُ فُتح باب المشاركة بالحوار المُستند على واقع مرير يعايشونه. وتتضاعف مرارة واقعهنّ، حين افتقاد بيئة حاضنة لهنّ.

قالت امرأة عجوز مرّة وحفظتُ ما قالت: “جوعان ما بيأوي جوعان”!! ومن الممكن أن تكون حكيمة هذه المقولة. ولكن لو تعمّقنا وغصنا في هذه الحكمة، ونظرنا من خلال قول السيّد المسيح: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله” (مت 4:4) فالفرق شاسع بين حكمة المخلوق الضعيف النابعة من مأساة يعيشها، وبين حكمة خالق حكيم يحيط بعلمه البشريّة جمعاء. فحكمة المرأة: “جوعان ما بيأوي جوعان”، ليست حكمة تُعالج اللجوء، ولا تُعيد الناس إلى بيوتهم، ولا تُوقف الحرب الشنيعة.

اقرأ أيضاً: الحاجة الأساسيّة وإتّباع أيديولوجيات “عالعميانة” – ناجي سعيد

ولست بصدد الوعظ أو لعب دور رجل دين، ولكنّ أوافق ما ورد بالإنجيل، ف “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، ليست تقليلًا من شأن الحاجات الأساسيّة التي تُبقي الإنسان على قيد الحياة، ولكنّ ما يُقصد بباقي الآية: “.. بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله.” قد فسّرته أنا من خلال تجربتي المهنية في مجال عملي: الاهتمام ببناء الهويّة. فكلّ كلمة تخرج من فمّ الله، لا شكّ بأنّها رحلة يخوضها الإنسان بحثًا عن الذات لمعرفتها وبناءها.

وما لفتني في التعرّف على المجموعة اللاجئة، هو أنّ مشاركتهنّ بالتدريب لم أراه مجرّد مشاركة خضوع لعوزٍ مادّي هنّ ضحاياه. ولكنّ هي مشاركة تُصنّف كمواجهة لمشاكلّ تراكمت عليهنّ، تُظهر مرونة عالية لديهنّ. وهذه المرونة تساعدهنّ على إعادة النهوض بعد كل وقوع في رحلة معاناتهنّ الحياتيّة. كما ساهمت هذه المرونة، في إظهار هويّة لاجئة، لكنّ ليست خاضعة وذليلة! فلا يمنع اللاجئة، مشاركة الآخرين المحيطين بها هويّتَها (الثقافيّة/ الاجتماعيّة/ الإنسانية). حيث من الإيجابيّة لأيّ انسان لاعنفي، أن يتشارك مع الآخرين تحت هدف تغييري مُجتمعيًّا، أجزاء مهمّة ومفيدة من هويّته. فالقشور الظاهرة، تُعلن بأنّ المشاركات هنّ لاجئات يعانينَ الفقر والظلم وو.. وبعد المشاركة في أي حديث معهنّ، تُدرك تمامًا بأنّهن لاجئات لم يخضعنَ لظروف قاهرة.

قمّة المرونة لديهنّ تدوير الزوايا المعيشيّة، ورسم هويّة جديدة تحمل معالم إنسانيّة، تُسقط ورقة اللجوء من دفترها، لتُركّز على ثقافة واضحة، مُلمّة بحقوق الإنسان عامةً، وحقوق المرأة الاقتصادية/ السياسية/ الاجتماعيّة/ الفكرية.. ليست الهويّة هي تاريخ ومكان الولادة، بل الهويّة تبدأ كل لحظة تحت مقولة: هنا والآن! وبما أن “الآن” عندهنّ مليء بالعنف والظلم، فمشاركتهنّ هي محاولة تمكين لامتلاك أدوات مواجهة للتخفيف من العنف، ليس عليهنّ فقط، لا بل الأهم تحييد أطفالهنّ من هذا العنف الذي يعتبره البعض هو مؤشّر التغيير. العنف والدمّ هما بداية التدمير، ومواجهة اللجوء تكون بعدم ترك أساسات الهويّة في بلد يعاني أزمات نتيجة غياب هذه الهوية. أصالة أي هوية، لا تلغي هويّة أخرى، فالهويّات الإنسانيّة مُتكاملة. العنف وحده يجعل كلّ الهويّات قاتلة.

اقرأ أيضاً: هل قرأ أحدنا كتالوج هويّته قبل دخول عالم التكنولوجيا – ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى