لغة الطفل.. كيف تبطِلون مفعول سلاح البكاء – ناجي سعيد
بعض حالات التأخر بالنطق لدى الأطفال سببها تربوي وليس مرضاً
كنّا نتبادل أُحجية منذ الصِغر، لا زلتُ أذكرها. والأُحجية تروي بأن لصّين سرقا منزلاً حيث كانا قد تسلّلا من مدخنة هذا المنزل. فاتّسخ وجه أحدهما، أمّا الآخر فبقي وجهه نظيفًا. والسؤال الذكي: لماذا “غسّل” وجهه ذو الوجه النظيف، ولم يفعل ذلك ذو الوجه المُتّسخ؟.
سناك سوري-ناجي سعيد
وببساطةِ الأطفال كان الجواب، أن نظرة كلّ واحد إلى الآخر، حرّكت سلوكه. فهل ظاهرة التقليد هذه، تعتبر مساحة تعلّم. لا بالطبع، فالخطورة تكمن في تقليد الطفل للكبار، فالتقليد يُعلّم بالطبع، من لا يعرف ولكنّ بالمنحى الإيجابي. فالتعلّم في المنحى التربوي، لا يكون باكتساب معلومات ومهارات سلبيّة، كالسرقة والشتم والسبّ. ومن هذا المُنطلق، يجب التشديد على إيجاد بيئة نظيفة وسليمة كي ينشأ الطفل على ما هو إيجابي وتربوي لاعنفي.
“إن الطفل منذ الولادة يستمر في تخزين الكلمات التي تُنطق من حوله. ولكن جهاز النطق لم يكتمل عنده لذلك لا يستطيع نطق أيّ من هذه الكلمات، غير أنه في هذا التوقيت، أي منذ الولادة إلى عمر أربعة أشهر لا يستطيع الطفل الربط بين الكلمة ومعناها”.
والملفت هنا، انّه بالإضافة إلى النمو البيولوجي، الذي يكتمل فيه عمل جهاز أي عضو في جسم الإنسان قبل آخر، تأتي البيئة التربوية الحاضنة لنمو الطفل. وخاصّةً، جهاز النطق وقد عشت هذه التجربة مع ابنتي حين لم تكمل عامها الثاني، فقد كنت أصطحبها إلى المول التجاري، وكان الناس يمرّوا هازئين مندهشين، حين كانوا يسمعوني أكلّم ابنتي، كأني اخاطب شخصًا كبيرًا!.
وقد كانت النتيجة، بأن مفرداتها اللغوية زادت عن المستوى الذي كانت تحدّده المراجع العلمية لكلّ طفلٍ في عمرها. فالدماغ يزداد نتاجه وعمله، كُلّما استخدمنا عمليّات تشكّل وظائف لديه. فعمل الدماغ يطابق عمل مُحرّك السيارة الديزل، فهذا المحرّك، يعمل أفضل وبقوّة اكثر كلّما زادت “حماوته”! وبعودة إلى اللغة، لغة الطفل الهجينة الغريبة، أودّ القول بأن الأهل والكبار هم من أسّسوا هذه اللغة، التي لا شأن لها، ولا معنى.
اقرأ أيضاً: التحفيز وأثره بعملية التعليم – ناجي سعيد
فمفردات هذه اللغة مبنيّة على أساس اعتقاد خاطئ من الأهل، بأن الطفل لا يستوعب ما يقولون. الطفل لا ينطق، لكنّه يفهم على الكبار، ويتجاوب معهم، ومع أنّ الكثير من الناس يقتنون كلبًا مثلاً، ويخاطبونه باللغة الإنكليزيّة: سيت داون ماكس!! ولا أعلم لماذا؟ هل هو اللاوعي الذي يوجّه الأهل بأن يقولوا لطفلهم: نبوّا؟ لو أرادوا سؤاله عن شرب الماء؟ أو ننّي؟ للطعام؟.
لو استندنا إلى العلم الذي يقسّم شخصيّة الإنسان إلى أربعة أقسام: روحي/ جسدي/ عقلي/ اجتماعي، لأيقنّنا بأن اللغة عند الطفل، حتّى لو ارتبط تكوينها بنموّ جهاز النطق عند الطفل، لكنّ هذا الجهاز ليس سوى مؤشّر لإخبار الأخرين بأنه ينطق. لكنّ التوازن لمكوّنات الشخصية، بجوانبها الأربعة، تساهم مُجتمعًة بنموّ اللغة السليمة، وبالتالي إذا حافظنا على تربويّة هذه البيئة، أنتجنا لغة تواصل لاعنفي.
فالدماغ عضو حيّ، ينمو بفضل البيئة المحيطة، وقد طرح هذه الإشكالية الفيلسوف ابن طفيل، في روايته “حيّ بن يقظان” ومن الممكن ان يكون استقاها من الرواية الأشهر “روبنسون كروزو” وهي قصة كتبها دانيال ديفو، نشرت للمرة الأولى سنة 1719. وقد تشبه قصّة ابن طفيل، أو روبنسون كروزو، الموضوع الذي نبحث به الآن، فهل تنمو لغة الطفل، فقط باكتمال أعضائه المكوّنة لجهاز النطق لديه.
التجربة تقول غير ذلك، فكما يحتاج الطفل إلى الغذاء ليكتمل نموّه، فالكلام السليم الذي يجب أن نخاطب به الطفل، هو مادّة غذائيّة تدفع بجهازه الناطق لأن يعمل بوقت مُبكّر ولا يتأخّر. ومن المؤكّد أن العديد من حالات التأخّر بالنطق، ليس سببها عضوي، بل بيئة غير تربوية، حتّى لو كانت كثيرة النطق.
فالطفل بالإضافة إلى حاجته إلى التقاط لغة سليمة من الآخرين، فالأساس هو الأمان، وإن غابت البيئة اللاعنفيّة الآمنة، يتكاثر الخوف والقلق بداخله، ممّا يشكّل لدى الطفل رُعبًا يعيق التواصل والنطق، فيتّجه الطفل إلى العزلة والإنعزال.
أمّا مع الطفل الرضيع، فتعتبر أغلب الأمّهات-كما ورثت عمّن قبلها- بأنّ بكاء الطفل يعني أنه: “أو بدّو ياكل، او لازم تغيريله الحفاض!!” والمشكلة هنا، لنتفادى هذين الإحتمالين، يجب تنظيم برنامج ثابت لتلبية الحاجات الفيزيولوجيّة لدى الطفل، الطعام في وقت محدّد.. وهكذا، قد يفقد الطفل معرفة ما يحتاج، حين نربط بين بُكائه وتلبية الحاجات، فآليّة ردّ الفعل للأهل، تجعل الطفل يعتقد بأنّ تلبية الحاجات مرتبط بصوت بكائه، فكلّما أراد شيئًا، غير الطعام، يكفي أن يبكي ليحصل على مبتغاه.
إن الفهم الخاطئ للغة الطفل، والمبني على اعتقاد بعدم نمو جهاز النطق، يساهم بنموّ غير سليم، تتكاثر فيه طرق عنيفة لتلبية الحاجات، فيصبح معيار التربية لدى الأطفال، هو “الهدوء” والصمت لدى طفلهم. لنُعطّل فعاليّة “سلاح البكاء”، علينا أن نُخبر طفلنا/طفلتنا بأن البكاء لا يزعجنا، فيكرّر البكاء مرتين أو ثلاث، وبعدها يستسلم، ويأتي دور الأهل بخلق مساحة حوار تربوي بشكل ديمقراطي، نعمل من خلاله على تغذية اللاعنف في التربية الأسرية.