الحرية مسألة لاعنفية .. ناجي سعيد
عن الحرية والإنسانية
سناك سوري – ناجي سعيد
كثيرًا ما يتفادى الناس النقاش حول الموضوع الأكثر جدلاً في العالم، ألا وهو مفهوم “الحريّة”، فالإنطباع الأوّلي الذي يُؤخذ عند سماع هذه الكلمة، هو التفلّت من أيّة قيود. فرحلة الوصول إلى المفهوم الإنساني لمصطلح حُريّة، مرّت بالكثير من الحقبات الزمنيّة الحالكة السواد. ففي عصر الجاهليّة كان جهل الإنسان هو المُنتج للظلم الذي تُرجم حينذاك بوأدِ البنات، حيثُ اعتبر رجال القبائل حينها، “البنت” عار على العائلة. وفي الوقت عينه، كان الأثرياء منهم يبتاعون “العبيد”، وكانت حجّة “الإستعباد” لون البشرة السوداء حينها.
أشهر قصّة في التاريخ (قرأتها في طفولتي) قصّة “عنترة بن شدّاد”، الفارس المُحارب الشجاع المفتول العضلات، الذي كان “عبدًا” من قبيلة بني “عبس”. وقد كانت القبيلة حينها في حربٍ مع إحدى القبائل. وقد رفض “عنترة” الشجاع أن يُحارب إلى جانب أبناء قبيلته الشجعان، قبل أن يمنحه (زعيم القبيلة ووالد “عبلة” محبُوبة قلبه) حُريّته الشخصية. وحين أُعتق، حارب مع قبيلته وانتصروا، ثُمّ تقدّم بطلب ابنة عمّه وتزوّجها وعاش حُرًّا سعيدًا بعد ذلك.
هذا وقدّ مرّ في تاريخ البشريّة الكثير من الحضارات، وكانت غالبيّتها تنظر لهذا المفهوم من وجهة نظر تفيد مصلحة القيّمين والزعماء والطبقة الحاكمة المُتحكّمة بالجماعة. إذًا فالمفهوم الأول هنا -وهذا بدائي طبعًا- هو أنّ معيار القوّة والشجاعة التي تميّز بها “عنترة” هو الذي كان سببًا لحصوله على حُرّيته. وفي الحالة هذه من يُعاني من ضعف في القوّة البدنيّة، فهو محكوم بأن يبقى عبدًا لأسياد القبيلة. هذا ظُلم وإجحاف طبعًا، لو وضعنا على أعيننا نظّارة الإنسان الحقيقي العابر لُكلّ العصور والحضارات ، ومُصطلح “عابر” هنا أعني به العبور من الجهل وقلّة الوعي المفروضة من واقع مُعاش، إلى النُضج والوعي الإنساني. فالهويّة الجماعية تُنسج من تجربة الناس التي تُلخّص أو تسرد رحلة الوعي الجماعي. وتفتخر الحضارات بإنجازاتها من خلال الإضاءة على مفهوم “الحريّة” الذي حصل عليها شعبها بمسيرة نضاليّة ضدّ الظلم وأحيانًا الطغيان.
اقرأ أيضاً مابين المعارضة وردة الفعل … ناجي سعيد
ليست الحريّة تقتصر على تحرّر شعب من استعمار وطغيان دولة ظالمة، بل تبدأ الحريّة من التحرّر الفكري التربوي والعلمي. هذا وقد أطلق فكرة “التحرّر” من التعلّم، المفكّر وعالم الإجتماع البرازيلي “باولو فرايري” صاحب كتاب ونظرية “تعليم المقهورين”، الذي اعتبر أن القراءة هي مفتاح التعلّم الذي ينال به الإنسان الحريّة. وللآسف فقد يعرف عموم الناس المقولة السائدة “من علّمني حرفًا صرت له عبدًا”، انطلاقًا من مفهوم الوفاء والإخلاص وردّ الجميل. فيكتسب الإنسان مفهوم الخضوع والطاعة باسم الوفاء والإخلاص. وهذا عكس التشبيه الذي يُستخدم عن الدواء ذو الطعم المُرّ ولكن نتيجته صحيّة ولصالح المريض. بينما نتيجة الخضوع والطاعة سلبيّة بطعم الوفاء والإخلاص..
وهذا من الأمور المُسيئة لمفهوم الحريّة، نظريًّا يتغنّى الشعب بالحريّة، كم هو مفهوم نبيل، لكّن حين يسير في ممرّ فردي يصبح من المفاهيم الضالّة والمُسيئة، فهي تُهدّد أمان الجماعة. والأمان مُستمدّ من مفهوم الاستقرار الذي يعتاد على روتين ثابت، ولا ينكسر إلاّ في حال طرح أي شيء مُختلف، أو مُخالف للجماعة، وهنا تبدأ العقدة في فهم أي مصطلح يحتمل وجهين بالتفسير، فالحريّة مفهوم يتغيّر حين يُفسّر ويُفهم بشكل فردي، أو بالأحرى تفرض الهويّة الجماعية تفسيرها على الأفراد كي تسجنهم في عالمها الجماعي الضيّق. نعم فتكون السيطرة عبارة عن هيمنة اجتماعيّة وليست لُغويّة، فالمفهوم “حريّة” له مدلولاته اللغوية التي تُفسّره كمصطلح إنساني يُستخدم في المُنتجات الأدبية قبل أن يتداوله الناس في تواصلهم اليومي. فيكون استخدامه وفقاً لملاءمة المجال الذي يعمل به مُستخدمه. فالسياسي يستسيغه كشعار يرفع لجذب الأنصار والمُريدين. والنقابي كمبدأ ينير درب نضاله التحرّري، وهكذا..
ويبقى أن نسأل هل الإنسان اللاعنفي يجب أن يتغنّى بالحريّة إذا كانت مضرّجة بالدم، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
“وللحُريّةِ الحمراءِ بابٌ بكلّ يدٍ مضرّجةٍ يُدقُّ” .
اقرأ أيضاً إنسان..موهوب – ناجي سعيد