الرئيسيةرأي وتحليل

تاريخ انتهاء صلاحية الزواج- أيهم محمود

هل يمكن اعتبار الزواج كما المواد الغذائية قابل لانتهاء الصلاحية؟

“يجب أن يُسجل في عقد الزواج تاريخ انتهاء صلاحيته” سمعت هذه العبارة عدة مرات خلال بضع سنوات ماضية من مصادر أنثوية متعددة، تم تداولها في جلسات نسائية خاصة ولم يتم طرحها في حضورٍ اجتماعي فيه كلا الجنسين، في التفاصيل أيضاً استشهادٌ بتاريخ انتهاء الصلاحية المدون على المواد الغذائية، تشبيهٌ ذكيٌ في بساطته وموضوعيته، بعد تاريخ انتهاء الصلاحية قد يكون المُنتَج الغذائي مازال صالحاً للاستخدام لكن العقد بين المُنتِج والمُستهلِك لم يعد سارياً، لا يستطيع المُنتِج ضمان بضاعته بعد هذه المدة لذلك الأسلم هو إتلاف هذه المادة وهنا بيت القصيد.

سناك سوري-أيهم محمود

قبل الخوض في الجوانب المختلفة لهذه العبارة الإشكالية أمهد الطريق بفكرةِ وجود التناقض الدائم بين كل الأشياء المقدسة اجتماعياً وبين رد الفعل الذي تولّده في أعماقنا، ينص القانون الفيزيائي الطبيعي البسيط أن “لكل فعلٍ رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الإتجاه”، بقدر ما تُصور المجتمعات البشرية فكرة الحب مع هالة التقديس المحيطة بها بقدر ما تُغفل عمداً ذكر التناقض الذي يثيره الحب المستدام في النفس، فهو ضد الطبيعة البشرية في الجوانب التي تتعلق بالتقييد والثبات في حالةٍ نهائية واحدة بينما الأصل هو الفضول والاكتشاف والتطور والتمدد إلى مساحات إضافية لا حدود مقيدة لها.

في الطبيعة، ينتصر حب الأم لوليدها مدةً تختلف بين كائنٍ وآخر، بضع أسابيع لدى العصافير التي تتفانى إلى حد الإنهاك في إطعام فراخها قبل أن يتم رميهم من العش(المنزل) لأسباب لا تتعلق فقط باستمرار الاستثمار في معنى الحب عبر دفع الصغير إلى تجربة الاستقلال عن والديه وعن تبعيته لهما وتجربة قدراته في الحياة، بل تتعلق أيضاً برغبة الكائن نفسه في العودة إلى استقلاليته مرةً أخرى ومتابعة حياته بعيداً عن أسر الحب وتبعاته المُعطِلة للحياة الطبيعية ولمُتعها الضرورية لتوازن الفرد.

في المجتمعات الغربية يحدث الانفصال بين الأُسَر وأطفالها بعد سن النضج حيث يميل الأفراد إلى الاستقلال العاطفي والمادي في سن مبكرة نسبياً مقارنةً مع بعض المجتمعات الشرقية والمجتمعات العربية بشكل خاص حيث تمتد فيها الطفولة العاطفية زمناً أطول يتجاوز حدث الاستقلال المادي والمكاني، يرى البعض هذا الأمر كفضيلة شرقية مميزة لكنه في الواقع صندوق باندورا بالنسبة للأسر التي تعاني من طفولة أحد طرفيها المؤسسين لها أو من طفولة كليهما نتيجة عدم تمكنهما -أو عدم تمكن أحدهما على الأقل- من تحقيق الانفصال العاطفي عن أسرته الأولى، استمرار تبعيته العاطفية للأسرة الأصل يؤدي في كثير من الحالات إلى الوصول إلى الانفصال القانوني، أو إلى انفصالٍ عاطفي مع بقاء حالة الزواج الظاهرية كعنوان فارغ من أي معنى حقيقي.

اقرأ أيضاً: تشابك الإدارات العالمية – أيهم محمود

نعود بعد هذا التقديم إلى ما بدأنا به نص المقال، بعد أن تخلصنا جزئياً من صدمة إنكار الفكرة المطروحة فيه لدى بعض القراء، للفكرةِ ما يبرر وجودها في طبيعة الإنسان، لكن هذا التقديم لا يعني المصادقة عليها، فهي ما زالت تحمل الكثير مما يمكن لنا كشفه.

يتم عقد الزواج في مرحلة عمرية مبكرة في أغلب الأحيان، يتم بين طرفين متأثرين بالتقديس الثقافي لهذه الحالة مما يجعلها مرغوبة بشكل استثنائي حيث يسبب فقدها آلاماً شديدة لدى معظم الأفراد، الزواج هو الضريبة الاجتماعية الواجب دفعها للمجتمع من أجل مصادقته على مشروعية إطلاق غريزة الجنس وغريزة التكاثر، أفصلهما عن بعضهما فهما يملكان معاني مختلفة لدى الإنسان على العكس من الحيوان الذي بدأت أصل الحكاية منه ثم تطور عقل الإنسان محققاً انفصالاً نادراً بين مفهوم التكاثر وبين مفهوم الجنس، وظيفة هذه المصادقة الاجتماعية هي تأمين الظروف المناسبة لنمو الأطفال الذين لا يحتاجون أسابيع فقط للنضج كما هي الحالة لدى الطيور على سبيل المثال، بل يحتاجون سنوات طويلة من الاستقرار الأسري للوصول إلى سن النضج العاطفي والإقتصادي.

هذا التصرف الموضوعي والمنطقي للمجتمع يصطدم بإشكالات كثيرة ليس أولها تطور وعي الفرد خلال تقدم السنوات وامتلاكه لوعي جديد متقدم يغير من أولياته، أو يغير حتى أسس اختياره لشريك الحياة الطويلة، هناك أيضاً عوامل أخرى لا تقل أهمية عن تطور الوعي تدفع نحو تحطيم قيود هذا التعاقد الاجتماعي باتجاه الوصول إلى الحرية الفردية، الفضول الإنساني للمعرفة هو غريزة أساسية أيضاً لا تقل أهميةً عن غرائز البقاء عبر التكاثر.

لولا فضول الأحياء الذي دفعها -ومازال يدفعها- لاكتشاف العالم حولها لما تمكنت من البقاء على قيد الحياة واكتشاف مصادر الطعام والطاقة اللازمة لاستمرارها فيها، لولا فضولها الداخلي لما اكتشفت آسرار أعماقها الذاتية وأسرار ممكناتها وقدراتها، كل أنواع الحياة تحاول وعي العالم حولها ووعي انعكاس هذا العالم في صورة وجودها، لا يقل عمق الإنعكاس عن عمق الواقع نفسه، فالحياة مرآة الوجود التي بلغت أعلى درجات صقلها في حالة الإنسان، وعيه الداخلي هو انعكاسٌ لعمق العالم حوله، وانعكاسٌ لعمق تعقيداته وعمق قوانينه الفيزيائية.

اقرأ أيضاً: قريباً السيارات الثمينة في العالم إلى الصهر – أيهم محمود

يدفع الفضول إذاً نحو التحرر من أسر الثبات، نحو اكتشاف الآفاق الممكنة خارج قيود مؤسسة الزواج، هذا الاكتشاف هو أكثر من ضرورة كي يفهم الكائن البشري أعماقه الحقيقية ويستعد للموت دون ندمٍ وألمٍ يرافق إدراكه لوجود حياةٍ كانت له نظرياّ فقط لكنه لم يتمكن من عيشها كما يجب، معظم قلق الموت والخوف المبالغ به منه نابعٌ من إدراك الموجود الإنساني لحقيقة إضاعته فرصة الحياة اليتيمة في الانتظار والخوف من فعل الإقدام على اكتشاف المحيط حوله، “انتهاء صلاحية الزواج” هي أملُ التقاعد المبكر لإعادة انطلاق غريزة الفضول البشري من أجل وعي العالم ووعي انعكاسه داخلنا، فلم لم نرَ هذه الفكرة منتشرةً في أحاديث الرجال في شرقنا؟، هل هم حقاً أكثر وعياً والتزاماً بقواعد المجتمع وقواعد تنظيم الأسرة؟.

ربما العكس هو الصحيح!.

تُصادق مجتمعاتنا الشرقية على حرية الرجل في الإكتشاف سواء عبر تقنينها جزئياً بضوابط قانونية، أو عبر إطلاق حرّيته الكاملة عملياً عبر التغاضي عن سلوك الذكور العاطفي والجنسي حتى وإن تم تجريمه قانونياً، يتعاطف المجتمع الشرقي مع السلوك الجنسي غير المنضبط لأفراده الذكور، بل يعتبره ميزةً تدعو للفخر لدى الأفراد وشطارةً وموهبة في مقابل قمعه بشدة لدى الإناث حتى لو كان الأمر مجردَ خيالٍ شخصي أو مجردَ تلميحٍ مثيرٍ أثناء ممارسة الجنس في العلاقة الزوجية التي يُفترض أنها سعيدة، إذاً هي حالة قتلٍ عمد لأي أفق ممكن خارج حدود جدران السجن وليس مجرد قمعٍ بسيط، قتلٌ في مقابل المنح بدون حساب للجنس الآخر المقابل، الجنس الإستثناء، حتى من عواقب قتل النساء دون محاكمات ودون إدانة اجتماعية، إذاً علينا هنا أن نشكر التعبير المهذب اللطيف الذي تمت صياغته بعناية واهتمام من أجل راحة نفس مجتمعاتنا الكريمة: “تاريخ انتهاء عقد الزواج”.

تسمح بعض المجتمعات الإنسانية جزئياً للأفراد باختبار الحياة الجنسية دون عقود زواج قبل الإقدام عليها، تسمح العلاقات المتعددة الممكنة قبل الزواج بالمزيد من معرفة الذات والعالم حولنا قبل التورط بفعل تقييدٍ طويل للغاية، هي تحل المشكلة جزئياً وآنياً فقط دون أن تُقدّم حلولاً موضوعية قابلة للتجديد والتحديث مع استمرار تقدّم وعي الإنسان نتيجة تجارب الحياة وتجربة الارتباط الزوجي نفسها، لذلك نجد انتشار الجرائم العاطفية بكثرة فقد تم تخفيف الضغط الداخلي في المنظومة وليس حل مشاكلها البنيوية الكامنة في جوهرها، جميع المقاربات الإنسانية في هذا المجال غير كافية لحل هذه المعضلة، وليست بعض المقاربات الغربية الأكثر تحرراً من غيرها استثناءاً لعدم الكفاية هذا.

اقرأ أيضاً: دعوة لمنع أدوات الرفاهية من قهوة وشاي ومتة – أيهم محمود

تحتاج البشرية إلى إعادة تموضعٍ وإعادة التوازن بين الجنسين، تحتاج أيضاً إلى ابتكارات ثقافية وإنسانية تعيد التوازن بين متطلبات الفردانية وبين متطلبات المجتمع واستمرارية وجوده، القضية أبعد بكثير من فكرة انتهاء صلاحية علاقة زواج، وأبعد أيضاً من إطلاق المزيد من الحريات الثقافية والاجتماعية والسياسية والإقتصادية، مازلنا نحيا أزمات وجودية كبرى تؤدي إلى تعميم القتل والتعذيب والقهر الإجتماعي، مازلنا بعيدين جداً عن إدراك ضفاف سلامنا الداخلي وإطلاق القوى الكامنة في أعماقنا، ما يحتاج فعلاً إلى تاريخ انتهاء صلاحية هي ثقافتنا القاتلة التي نتوارثها من جيلٍ إلى جيل دون التجرؤ على نقدها وعلى إصلاحها، أو التجرؤ على نفيها واستبدالها بما هو أفضلٌ منها.

قبل ختام هذا النص الذي ما زال يحتمل قول الكثير من الكلام، أشير إلى نقطة هامة في مسألة الفرق بين إدراك المشكلة غريزياً وبين إدراكها بالوعي العميق وبالعقل الصارم البعيد عن أهواء العاطفة:

من منهن -وقد أدركن جوهر المشكلة- تقبل بهذا التمني، انتهاء عقد الزواج في أجلٍ ما، والقفز نحو المجهول مرةً أخرى في عمليةٍ قد لا تكون أفضل من سابقاتها، عالمنا موبوءٌ بالأفكار العظيمة التي لا يجرؤ أحد على متابعتها حتى نهاياتها المنطقية، هذا الأمر ليس محصوراً بالإناث فقط، بل هي ثقافة شعارات عالمية عامة تتعلق بوعينا البشري المبتور الذي لم يجرؤ بعد على إنجاز العبور نحو سن النضج، فالوصول إليه يعني مغادرة عالم الطفولة إلى غير عودة، ويعني أيضاً تحمل الفرد وحده مسؤولية القرار الذي يتخذه، ليست المجتمعات الشرقية فقط من تملك خصائص هذه الطفولة المزمنة المستدامة، بل هي مشكلة بشرية عامة الفروقُ فيها ضئيلة للغاية وفق أي مقياس عقلاني عام مجردٍ من العواطف والمشاعر والأهواء الشخصية أو الجماعية.

اقرأ أيضاً: نخب علمية لم تَرُدّ لمجتمعها تضحيته – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى