هل يمكن مواجهة العنف باللاعنف؟ – ناجي سعيد
تجربة شخصية في مواجهة أحد أشكال العنف
سناك سوري-ناجي سعيد
كانت ابنتي في الصف الثالث الابتدائي عندما انتقلت صديقتها المُقرّبة منها (الأنتيم) إلى مدينة أخرى مع أهلها، ممّا اضطرّ (صديقتها طبعًا) لتغيير المدرسة. وقد تركت ابنتي وحيدة. وعلى الرغم من العفويّة التي تميّز عالم الطفولة، إلاّ أنه -وبحسب تقديري- فتدخّل الكبار لتربيتهم عادةً، يضع قيودًا على العلاقات العفويّة بينهم. فقد كانت ردّة فعل الآخرين (باقي الأصدقاء في المدرسة) بأن نبذوا ابنتي من المجموعة ومنعوها من اللعب معهم. وأذكر اليوم التي عادت ابنتي إلى المنزل حزينة جدًّا من ذلك التصرّف. وقد كانت الفرصة الأولى لي لمواجهة العنف باللاعنف تربويًّا.
نعم فالرفض ونبذ الآخر من أقسى أنواع العنف المعنوي. يشعر تمامًا بما أقول من يمرّ بهذه التجربة. لقد روت لي ابنتي ما حصل معها. ولم أجد في الحدث مُعتدي أو مُذنب. فدائرة العلاقات دائمة التغيّر، وهذا جدّ طبيعي، فالمصلحة الشخصية هي التي توجّه الشخص للحفاظ على العلاقة أو تركها، سواء كان صغيرًا كان أم كبيرًا. وقد طلبتُ منها حينذاك، بأن تذهب إلى أصدقائها (المجموعة النابذة) وأن تقول لهم: “أنا صديقتكم وأرغب باللعب معكم”. وبطريقة لطيفة، لا تحمل في لهجتها سوى المحبة والودّ. فما كان من المجموعة إلّا القبول بها كصديقة.. وعاد مجرى العلاقات العفويّة الطفوليّة إلى طبيعته.
الدرس الذي اكتسبته من هذه الحادثة، أوّلاً: طبيعة البشر خيّرة، فالأطفال أقرب إلى هذه الطبيعة، حيث ما زالوا بعيدين عن العالم المُشوّه المليء بالمفاهيم السلبية (الحسد، الغيرة، الطمع..)، والدرس الثاني، هو أن بالإمكان طبعًا مواجهة العنف باللاعنف، والطبع هذه الوصفة لا تنفع في حالة العنف الإلغائية، فمن الغباء (عُذرًا) أن تواجه بالوسائل اللاعنفية (الحوار مثلاً) إنسانًا يحمل عصا ويهمّ بضربك أو سلاحًا ليقتلك!.
اقرأ أيضاً: عن تولستوي وأثر الثقافة العربية في لا عنفيته _ ناجي سعيد
إن من الواقعيّة أن تحيد من درب العنف ليعود الإنسان إلى طبيعته. ففي الطبّ والعلم لا يمكنك أن تُعالج أي عضو في جسمك مُتورّم أو “ملتهب” مثلاً. فالطبيب يبدأ بالعلاج الذي يُعيد الجسم إلى طبيعته، ثمّ يعتمد المنحى الوقائي. والعنف هو مرض، لكنّه ليس فرديًّا، إنّه جماعي بل مجتمعي. وهو كالشائعة، حين تخرج إلى التداول الجماعي، يستحيل ضبطها. وتربويًا، تبدأ شائعة بأن العنف هو الحلّ بإدارة العلاقات، في نصيحة الأهل للطفل في يومه المدرسي الأول: ” اللي بيضربك اضربه”.. ومن الصعب أن نعيد تصويب هذه النصيحة، فالعمل الآن أصبح على مستوى دماغ الطفل، فليست نصيحة عابرة، أنها نابعة من مرجعيّة تربوية أصيلة لدى الطفل، فنصائح المدرسة إن كانت تربوية فهي من الخارج وقابلة للزوال..
ليس كلامي تعجيزًا، فاللاعنف هو من طبيعة البشر، ومن المهم جدًّا أن يبدأ من أوّل المسار التربوي. ليس اللاعنف دواءً يُعطى منه عند اللزوم، إنّه البحث عن البداية والبدء بها. فلم تكن فلسفة غاندي ووسائله اللاعنفيّة مُستقاة فقط من الثقافة البوذية التي يتبعها الشعب الهندي، بل كان التركيز أيضًا على الطبيعة البشرية. لم تكن ابنتي في عمرٍ يخوّلها معرفة غاندي وفلسفته، بل دللتها على المسار الأصلي وغير المُشوّه لطبيعة البشر. وكانت النتيجة إيجابية مفيدة.
ليس حديثي عن ابنتي استعراضًا، بل دروسًا تعلّمتها من تربيتي لها، لأسلك مسارًا هو ليس شائكًا بالأصل، بل الظروف المحيطة الخارجية أنبتت الشوك فيه. ولمواجهة العنف باللاعنف، علينا أن نبدأ من الدائرة الصغيرة التي تحيط بنا، وقد بدأتها مع ابنتي بأن أسديت لها النصيحة:
“لا تؤذِ نفسك ولا تؤذِ غيرك”..
اقرأ أيضاً: الضمير واللاعنف – ناجي سعيد